الماضي لا ننساه ولا نكتفي بالتغني به

إن هذا المركز القيادي الذي تبوأته هذه الأمة كما أسلفت لا يكون بالكسل، ولا يكون بالنظر إلى الماضي، فنحن كثيراً ما نتكئ على ماضينا، ونهرب من الواقع إلى الماضي، ولذلك شعراؤنا وخطباؤنا ومتحدثينا ووعاظنا وكبيرنا وصغيرنا؛ كثيراً ما تجدهم يتكئون على الماضي، فالأب حين يريد أن يربي أطفاله ماذا يقول لهم؟ فهو لا يجد في الواقع من القصص ما يقوله لأولاده، ولا يجد من البطولات والفضائل والنماذج الحية ما يقوله لمن يربيهم، والأستاذ والخطيب والشاعر كذلك، فنحس بأن الواقع مر، ولذلك ليس في الواقع ما نتغنى به أو نمدحه، فنلجأ إلى أن نلتفت إلى الماضي، ولا أقول: إن الالتفات إلى الماضي خطأ، بالعكس نحن أمة لو نسينا ماضينا فلا وجود لنا، وكما يقول الشاعر أحمد شوقي: مثلُ القوم نسوا تاريخهم كلقيط عيَّ في الناس انتسابا ويقول الآخر: ومن وعى التاريخ في صدره أضاف أعماراً إلى عمره فكيف ننسى ماضينا وفيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم! وهو الذي جاءتنا هداية السماء بواسطته، وفيه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين كانوا أمنة لمن بعدهم فإذا ذهب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتى أمته ما يوعدون -كما صح بذلك الحديث- وكيف ننسي ماضينا وفيه القرون المفضلة التي حكم النبي صلى الله عليه وسلم بفضلها وخيريتها! ولا أقول إننا ننسى ماضينا، لكنني أقول: إن الاعتماد على الماضي والتغني به لا يكفي، فلا يكفي أن يقول الإنسان: أبي كان وكان وكان فحينئذٍ نقول له: أنت أصبحت "كنتياً" والناس يقولون فلان كنتيٌ إذا ترك العمل الصالح وصار يقول: كنت وكنت وكنت، وهذا أيضاً ما يحدث للإنسان الكبير، فعندما يكبر سنه لم يعد يستطيع أن يعمل شيئاً فيكتفي حينئذٍ أن يتحدث عن مآثره وفضائله السابقة فعلت وفعلت وكنت وكنت فهذا يسميه العرب كنتياً، فلا يكفي أن يكون الإنسان كنتياً، بل لابد مع النظر إلى الماضي والاستفادة منه أن ننظر إلى الحاضر وأن نعد لذلك، فهذا المركز الذي تبوأته هذه الأمة في الماضي لم تنله إلا بالجهاد الصادق، ولهذا كان من شرائع الإٍسلام الجهاد، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم إنه: {ذروة سنام الإسلام} .

وفي الحديث الآخر: {إن في الجنة مائة درجه أعدها الله للمجاهدين في سبيله} وعندما تقرأ الأحاديث الواردة في الجهاد وفي الاستشهاد -اقرأ مثلاً في أقرب كتاب وهو رياض الصالحين ما ورد في الجهاد وفي الشهادة- تتعجب من عظمة هذه النصوص، وقبل ذلك اقرأ الآيات الواردة في الجهاد في القرآن الكريم وتفسيرها، تجد أمراً غريباً، فما هو السر في تعظيم هذه الشعيرة؟ لأن هذه الشعيرة روح يسري في الأمة، فإذا فقدت الأمة هذه الروح فلا حياة لها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه: {نصرت بالرعب مسيرة شهر} والرعب إنما يكون للمجاهدين الذين يحملون سيوفهم على عواتقهم ويقول قائلهم: نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمراً جعلوا الوجوه إلى الحجاز وكبروا في مسمع الروح الأمين فكبراً محمود مثل إياز قام كلاهما لك في الوجود مصلياً مستغفراً العبد والمولى على قدم التقى سجداً لوجهك خاشعين على الثرى فهؤلاء يحملون سيوفهم على عواتقهم مجاهدين في سبيل الله جل وعلا، فهم الذين نصروا بالرعب، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامه وهو في المسند: {ونصرت بالرعب يقذف في قلوب أعدائي} وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهو في المسند يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ونصرت بالرعب على أعدائي ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر} .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015