الوقفة الثالثة: من معالم هذه الخصائص والمميزات التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، هي: أن هذه الخصائص ليست ميراثاً يورث، وإنما هي عمل صالح يكتسب، ولذلك فإن الله عز وجل حين يذكر في كتابه الكريم الأنبياء وهم أفضل البشرية على الإطلاق، يبين أن هؤلاء الأنبياء لو لم يستقيموا على منهج الله وشرعه لما كان لهم مكان، وهم أنبياء معصومون لكن ليعتبر غيرهم، يقول الله عز وجل بعد ما ذكر قصص الأنبياء {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] ويقول عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] وهكذا أيضاً يخاطب الأنبياء عليهم الصلاة والإسلام، إذاً: غيرهم من باب الأولى، فالقضية ليست إرثاً يُورث، بل القضية عمل يُكتسب، ومن استقام على هذا المنهج تميز بهذه الخصائص، ومن انحرف فليس له عند الله من خلاق.
ولذلك اليهود -بنو إسرائيل- كانوا يفتخرون ويعتبرون أنفسهم شعب الله المختار كما هو معروف، لكن هذا الفخر مرفوض؛ لأنهم اعتبروا أنفسهم شعب الله المختار؛ بسبب أنهم بنو إسرائيل، وهذه ليس لها عند الله قيمة ولا وزن، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وليس بين الناس تفاضل عند الله جل وعلا بنسب، فلا فضل لعربي على عجمي، ولا لقرشي على غير قرشي إلا بالتقوى، وهذا لا يمنع أن هناك فضائل خصَّ الله بها أمماً أمم وقبائل كقريش وغيرها، لكن لا يعني كونه قريشاً -مثلاً- ألا يطيع الله عز وجل، وأن يعصيه، وأن يتمرد على تعاليم الإسلام! كلا، فمن عصى وانحرف فليس له موقع حتى ولو كان ابن نبي، وهذا ابن نوح ذكر الله تبارك وتعالى عنه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] فيكون مصيره في الدنيا إلى الغرق ومصيره في الآخرة إلى الحرق، فلم ينفعه أن يكون أبوه نبياً، وهذا عم النبي صلى الله عليه وسلم، أبو لهب وأبو طالب مأواهم في النار، ولذلك يقول القائل: كن ابن من شئت أدباً يغنيك محموده عن النسب إن الفتى من يقول هأنذا ليس الفتى من يقول كان أبي ويقول آخر: لعمرك ما الإنسان إلا ابن سعيه فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب إذاً: كون الإنسان من قبيلة كذا، ليس له معنى إذا لم يستقم على الجادة، وكون الإنسان عربياً، ليس له معنى إذا لم يستقم على الجادة، وكون الإنسان يعيش في الجزيرة العربية التي لها من الخصائص كيت وكيت وكيت -وهذا موضوع آخر يطول الحديث فيه- ليس له معنى إذا لم يستقم على الجادة.
وإنما هذه الخصائص عمل وإخلاص واستقامة وصدق وجد.
ولذلك من اعتمد على مواريث أنه فلان بن فلان، وأنه عربي، وأنه يعيش في الجزيرة العربية، وأنه ربما يتكل على هذه الأشياء ويكسل حتى يتأخر، وآخر ليس له من المواريث ما يجعله يفتخر، فيجد ويكدح ويعمل حتى يستطيع أن يثبت نفسه في الواقع، وينفع نفسه، وينفع غيره ويكون أعلى للناس، ولذلك ذكر بعض المؤرخين أنه في كثير من العصور كان كثير من العلماء، والفقهاء، والقضاة، والمفتين الذين هم مرجع الناس ومفزعهم في أمور دينهم وعقيدتهم وأحكامهم وشرعهم من الموالي الذين ليس لهم نسب عربي يفتخرون به، لكن هؤلاء الناس عرفوا أن موقعهم هو بتقواهم لله عز وجل، فلم يعتمدوا على أمر من الأمور الموروثة، بخلاف آخرين ربما اتكئوا على أشياء ورثوها واعتمدوا عليها وتركوا الجدَّ والاجتهاد والعمل فاستأخروا وسبقهم غيرهم.