حرص النبي على بيان هذه الخصائص

الوقفة الثانية: النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على تأكيد هذه الخصائص، وبيانها وإشهارها وإظهارها في نفوس أصحابه، ويبرز هذا الاهتمام والحرص في عدة أمور: أولاً: نجد أن هذه الخصائص رواها لنا جماعة من الصحابة، فرواها لنا جابر كما في الحديث المتفق عليه -وقد ذكرته قبل قليل- وليس هذا فقط بل إن هذا المعنى جاء عن ابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وأبي ذر الغفاري، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأحاديث هؤلاء الصحابة رواها الإمام أحمد في مسنده بأسانيد حسان كما يقول الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وكذلك جاءت هذه الخصائص عن أبي هريرة وغيرهم كما سيأتي الإشارة إلى طرف منها.

فكون هذه الخصائص تروى عن ستة أو سبعة أو ثمانية من الصحابة، يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلهج بها بين الحين والحين، ويكثر من ذكرها حتى حفظها عنه أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.

وهذا يثير سؤالاً لماذا كان النبي صلى الله ذعليه وسلم معنياً بذكر هذه الخصائص؟ لكن قبل الإجابة على هذا السؤال أشير إلى أمر آخر يدل على اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بإبراز هذه الخصائص، وهو: في حديث عمرو بن شعيب الذي رواه أحمد بسند حسن أنَّ ذِكرَ النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الخصائص كان في غزوة تبوك.

وغزوة تبوك من أواخر الغزوات إن لم تكن آخر الغزوات التي غزاها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يوحي بأنه عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على ألا تنسى، ولذلك فإن من الأشياء التى حرص عليها النبي صلى الله عيه وسلم أمور كان يقولها حتى وهو في مرض الموت، وكأنه يقول: أوصيكم بهذه الأشياء في اللحظات الأخيرة، ولماذا كان عليه السلام حريصاً على ذكر هذه الخصائص؟ ولا شك أنه يريد بهذا من أمته ألا تنسى دورها القيادي الذي كلفها الله تبارك وتعالى به في قيادة البشرية، وتصدر موكب الإنسانية.

إن الله تبارك وتعالى لم يرضَ لهذه الأمة أن تكون في ذيل القافلة، تلتقط فتات موائد الأمم الأخرى، وتكون في فكرها وخُلقها وعلمها، بل وحضارتها تابعة لغيرها من الأمم، بل هذه الأمة أراد الله تبارك وتعالى لها أن تكون في الصدر، وكما قال أبو فراس الحمداني: وإنا لقوم لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر فالرسول عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على أن لا تنسى هذه الأمة دورها القيادي في قيادة البشرية وتصدر موكبها، وفي المقابل كان صلى الله عليه وسلم يدرك بما أخبره الله تعالى من علم الغيب وأطلعه عليه، أن هذه الأمة ستمر بها فترات تنسى فيها مهمتها، وتضعف فيها وتتأخر عن موقعها، وبالتالي سوف تصبح هذه الأمة تابعاً لغيرها من الأمم، وسوف تصبح مقلدة لغيرها من الأمم، ومتشبهة بالأمم الأخرى، فتدخل وراء الأمم الأخرى جحر الضب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة؛ حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى، قال: فمن؟} أي: نعم، هم اليهود والنصارى.

فأشار عليه الصلاة والسلام إلى أنه ستمر بهذه الأمة حالات ضعف وفترات ركود وتخلف وتأخر، فتتقهقر فيها هذه الأمة، ويتصدر ركب البشرية أمم أخرى، وهذا هو الواقع الذي نعيشه اليوم.

فلذلك بيّن صلى الله علية وسلم هذه الميزة؛ حتى تظل الأمة مدركة أن الوضع الراكد المتخلف الذي تعيش فيه ليس هو الوضع الذي خلقها الله له، ورضيه لها، بل هو استثناء تسعى الأمة للخروج منه والوصول إلى الموقع الذي وصلت إليه، أرأيت الأستاذ حين يكون عنده طالب في الفصل، وجرت العادة أن هذا الطالب دائماً في المقدمة بتقدير ممتاز، ويأخذ العلامة (100%) في كل مادة، حتى عرف هذا الطالب في المدرسة بين أقرانه وبين أساتذته، فحين يخفق هذا الطالب يوماً من الأيام في مادة من المواد، أو حتى يخفق في سنة من السنوات لظروف ألمت به -ظروف أو صحية، أو أي سبب آخر- وقد كان أساتذته قبل ذلك ينفخون في همة هذا الطالب وعزيمته، حرصاً منهم على أن يظل هذا الطالب محتفظاً بموقعة، وحين يقع من الطالب هذا التأخر لظرف من الظروف أو سبب من الأسباب، فإن المدرس لا يفقد ثقته بهذا الطالب بل يعمل على أن يأخذ بيده لينهض من كبوته، ويلتمس له العذر فيما وقع فيه، ويبين له أن بإمكانه أن يستعيد موقعه السابق، وهذا هو الدور الذي تؤديه هذه الأحاديث للأمة في مثل هذا الوقت، في تقول للأمة: أنتم ممن كتب لهم هذه الخصائص، ممن كُتب أن تكونوا خير الأمم، فما بالكم أصبحتم في آخر الركب وفي ذيل القائمة؟! إن هذه الكبوة وهذه العثرة التي وقعتم فيها لا تعفيكم من محاولة النهوض مرة أخرى، ولذلك فإننا نجد -مثلاً- أن مسألة التقليد والتشبه بالأمم الأخرى التي ابتليت لها الأمة الإسلامية اليوم، فأصبحت تقلد الغرب في كل شيء: في الشكل والمظهر وميزات الشخصية والأسماء واللغة، فضلاً عن العلوم والنظريات العلمية، وأشياء أخرى كثيرة جداً أصبحت الأمة الإسلامية عالة فيها على غيرها، وأصبحت تقلد ليس فيما يُحسن، فالأمور الجيدة الحسنة لا تعد تقليداً، ولو أخذت من الأمم الأخرى فلا حرج في ذلك ولا ضير، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأمور الحسنة عن غيرهم، كما في شأن حفر الخندق، وكما في مسألة اللباس الذي كانوا يلبسونه مما نسجه فارس والروم وغيرهم، وكما في مسألة تدوين الدواوين، وغير ذلك من الأشياء المفيدة النافعة التي تُعلَّم المسلمين أن الخير هم أحق به من غيرهم، فكل خير يوجد عند أمة من الأمم الأخرى فالمسلمون أجدر به وأحرى، وإنما المصيبة أن المسلمين أصبحوا يأخذون عن الأمم الأخرى ما يدل على ضياع هويتهم وشخصيتهم.

وإلا فما معنى كون المسلم -مثلاً- يقلد غيره في شكل شخصيته: في هندامه ومظهره وثيابه وصفَّة شعر الرأس؟ إن أعفوا شعر الرأس أعفينا، وإن حلقوا شعر الوجه حلقنا، وإن لبسوا الملابس بصفة لبسنا، وإن تكلموا بطريقة تكلمنا، حتى الأسماء والعادات، والتقاليد، وطريقة الأكل، والشرب، والتعامل، وعبارات الشكر والثناء، حتى العبارات فأصبحنا نقتبس من اللغات الأخرى كلمات، وكم منا من يفخر بأنه يجيد ويتقن كلمات يعبر فيها بلغة أخرى، ويشعر بنشوة حين يتحدث بهذه الطريقة.

وهنا يأتي دور إحياء الثقة في المسلم بدينه وأمته، وأنه لا يجوز له أن يكون هكذا وينبغي أن يذكر أن له خصائص تمنعه من ذلك، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً على ذكر هذه الخصائص وتكرارها وإشهارها حتى في أواخر أيامه صلى الله عليه وسلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015