السبب الرابع: هو ضيق الأفق الذي يجعل الإنسان يرجع ليقول: قولي صوابٌ لا يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ لا يحتمل الصواب، وليس هو في قضايا شرعية؛ بل في قضايا واقعية، وأحياناً قد يكون الخلاف على رأيه في فلان، أو رأيه في المؤسسة الفلانية، أو رأيه في الشخص الفلاني، أو في الكتاب الفلاني، أو في العمل الفلاني، فيقع الخلاف، فتجد الإنسان إذا أصدر قولاً فإنه يعتبر أن هذا القول صوابٌ لا يحتمل الخطأ.
وأذكر شخصاً يتكلم في قضية من هذا النوع ويقول: أشهد الله على أن كل ما أقوله حق، يا سبحان الله!! كل ما تقوله حق؟! فهذه ليست إلا للرسول صلى الله عليه وسلم فهو الذي كل ما يقوله حق، أما من عداه من الناس فلا يمكن أن يقول الإنسان عن نفسه أو عن غيره أن كل ما يقول حق أبداً.
ثم أنت تتكلم في قضية شخصية أنت فيها طرف وهناك أطراف أخرى، وقد يكون لك جزء من الحق ونفرض أنك -مثلاً- (90%) من الحق فسيبقى (10%) لا بد أن يأخذه الطرف الآخر، وأنا لا أتكلم عن قضية خاصة بكل حال، لكن فكرة أن كل ما أقوله حق هي فكرة يجب أن تنزع، ويجب أن نتربى جميعاً على سعة الأفق الذي بجعل -وإن ذهبت إلى رأي في مسألة- عندك استعداداً وقدرة على سماع ما عند الآخرين، فاسمع ما عند الآخرين، واجعل الآخر يعرض رأيه ومبرراته ومسوغات هذا الرأي، وبالتالي بعدما ينتهي من عرض ما لديه بإمكانك أن تقبل أولا تقبل.
أما بعض الناس فالحقيقة أن قناعته ليست بعقله بل بقلبه، أي: أنه يتشبع وجدانياً وعاطفياً بقول، وبالتالي يصبح -أصلاً- ليس لديه استعداد أن يسمع منك، وربما تعرض عليه القول وهو مغلق الذهن، كالذي يقول: {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:5] فأحياناً تتذكر هذه الآية؛ فأنت تتكلم وهو أصلاً ليس في ذهنه أنه يحتمل أن ما عندك حقٌ حتى يسمع، بل هو مقرر سلفاً أن ما عندك باطل، والمهم أن تسكت.
وبذلك يستمر الخلاف أو يزداد ويتسع، والذي ينبغي للشاب أن يتربى عليه هو سعة الأفق والاستعداد لسماع ما عند الآخرين، ثم القبول أو الرد على وفق ما يصل إليه اجتهاد الإنسان، وهي قضايا -كما قلت- اجتهادية.