الخطأ الرابع: هو الإنكار في مسائل قد لا يكون الحق فيها دائماً مع المنكر، والفقهاء والعلماء يقولون: لا إنكار في مسائل الخلاف، وهذه الكلمة ذكرها جماعة من العلماء كـ الغزالي، والنحاس وغيرهم، ولكن الصحيح أن فيها تفصيل، بمعنى أنه لا يمكن أن نطلق هذه الكلمة، بل لا بد أن نفصل فيها؛ لأن كثيراً من المسائل فيها خلاف، فلو قيل: إنه لا إنكار في مسائل الخلاف، معناه أنا أبطلنا الإنكار في مسائل كثيرة.
أقول: مسائل الخلاف أنواع: منها: مسائل القول الراجح فيها واضح ومشتهر، والقول الآخر مرجوح وضعيف، فهذه ينبغي تنبيه الآخذ بالقول الضعيف والمرجوح إلى ما هو الحق والراجح ومناقشته في ذلك.
كذلك هناك مسائل يوجد فيها خلاف صحيح، لكن أحد الأقوال هو المشتهر والمعروف والمعمول به في الواقع، وفي التزامه مصلحة كبيرة، فلا بد من الإنكار فيه.
وأضرب لذلك -مثلاً-: مسألة حجاب المرأة، وأعني بالحجاب النقاب الذي هو تغطية الوجه، مسألة فيها خلاف، ليس هناك إشكال، ولا أحد ينكر وجود الخلاف فيها، لكن تأتي إلى بلد كالسعودية -مثلاً- النساء فيها بمقتضى قوة الأنظمة ملزمة، سواء كانت المرأة سعودية أم غير سعودية، مسلمة أم غير مسلمة، هناك أنظمة تنص على أن كل امرأة تأتي إلى هذا البلد يجب أن تلتزم بتغطية الوجه ولبس العباءة، فهذا نظام موجود هنا، ففي هذه الحال قد تقول لإنسان -وقد يكون متديناً أحياناً- قد كشفت امرأته وجهها: يا أخي! لماذا لا تتحجب امرأتك؟ يقول: يا أخي! هذه مسألة فيها خلاف! نحن الآن لسنا في مجال الحديث عن الخلاف في هذه المسألة، أنت في بلد يلتزم أهله بتغطية الوجه، وتغطية الوجه فيه مصالح عديدة، وإجماع العلماء على أن تغطية الوجه مشروعة، لكن خلافهم هل هي واجبة أو مستحبة، فأنت حين تغطي وجه امرأتك ما خالفت أحداً من أهل العلم بحال من الأحوال، كل العلماء يحمدونك، ولا يوجد أحد من العلماء يقول: أنت مخطئ إذا غطيت وجه امرأتك، لكن منهم من يقول: فعلت واجباً، ومنهم من يقول: فعلت أمراً مستحباً.
إذاً افعل هذا الأمر على الأقل لأنه مستحب من وجهة نظرك، وهو أمر تفرضه عليك أنظمة هذه البلاد، وهي مصلحة كبيرة لئلا تتجرأ النساء على هذا الأمر، ثم يؤدي الأمر إلى ما بعده، خاصة ونحن نعرف مدى الانحراف الذي وقع في البلاد الإسلامية، في مجال التفسخ والسفور والتبرج والاختلاط وغير ذلك.
مثل آخر: قضية الإسبال؛ وكون الإنسان -أو بعض الناس- يكون قد أرخى ثوبه إلى ما تحت الكعبين، فإذا نبهته على ذلك قال: يا أخي! فيه خلاف، بعض أهل العلم يقول: إذا لم يكن فيه خيلاء فهو ليس بحرام، وهذا أيضاً فيه خلاف ولا شك، وليس في المسألة إجماع، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار} ولم يحدد ما إذا كان ذلك لخيلاء أو لغير خيلاء، لكن لا ننكر أن فيها خلافاً، إنما كون الإنسان يسبل مع أن النصوص في ذلك صحيحه، وليس هناك ما يدل على أنه لغير خيلاء، كيف يعرف الناس ما في قلبك؟! في مثل هذه الحال ينكر الإنسان على من وقع في مثل هذه الحال، فإذا قال لك هذا الإنسان: أنا فعلت هذا بمقتضى دليل، وأنا عندي أن القول الراجح هو القول الآخر، وأنا استفتيت فلاناً.
إذاً لا داعي لإطالة الجدل، المهم أنك بينت وجهة نظرك، والدليل الذي تعتمد عليه، ولا داعي لطول المناقشة في مثل هذه الأمور، لكن لا بد من بيان ما تعتقد أنه الحق.
هناك أمر آخر لا نسميه إنكاراً بل نسميه بيان الحق الذي تعتقده، والفرق بينه وبين الإنكار هو أنك تعرض ما لديك بهدوء، ولا تعرضه على سبيل الإلزام للطرف الآخر، لكن تعرضه على سبيل أنك تعتقد أنه أولى وأحرى بالقبول والاعتبار والتنفيذ.