السبب الأول: عدم وصول الدليل إلى بعض العلماء، وهذا موجود حتى على مستوى الصحابة رضي الله عنهم، مع قرب عهدهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وسعة علمهم، ومع ذلك يوجد من الصحابة من يفوته من الأدلة ما يوجد عند غيره، حتى كبار الفقهاء من الصحابة كـ عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وغيرهم، قد يفوتهم الدليل ولا يصل إليهم، وحتى كبار الرواة من الصحابة كـ أبي هريرة ربما فاتهم الدليل، ولم يصل إليهم، أو وصل إليهم متأخراً، ويحضرني في هذا المجال الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أيضاً عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما قالتا: {نشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من جماع غير احتلام فيصوم} يعني أن الإنسان لو كان عليه جنابة في رمضان أو في غيره، ولم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر فصومه صحيح، وأبو هريرة رضي الله عنه كان يفتي بخلاف هذا، اعتماداً على حديث رواه له بعض الصحابة، ولذلك لما سمع مروان هذا الحديث من أبي بكر بن عبد الرحمن قال له: أقسمت عليك لتقرعن به أبا هريرة أي: تواجه أبا هريرة وتوبخه بهذا الحديث الذي هو على خلاف فتواه، فكره ذلك أبو عبد الرحمن، ثم إنه التقى بـ أبي هريرة بمزرعة له في ذي الحليفة فقال له: إني محدثك حديثا لولا أن مروان عزم علي وأقسم علي ما حدثتك به، ثم ساق له الحديث، فقال أبو هريرة رضي الله عنه: كذلك حدثني الفضل بن العباس فرجع أبو هريرة إلى مضمون هذا الحديث.
فقد يحدث كثيراً أن يفتي العالم بمسألة، أو يقول بقول مخالف للدليل، نظراً لأن الدليل ما وصل إليه، فإذا بلغه الدليل رجع إليه، وإذا لم يبلغه ظل على ما كان يقول به قبل ذلك، ويوجد عند الأئمة الأربعة فضلاً عن غيرهم من ذلك الشيء الكثير، وهذا ليس بعيب، فإنه لا يمكن أن يجتمع العلم كله عند إمام واحد، ومن زعم أن السنة كلها تجتمع عند إمام واحد من الأئمة فقد أعظم الفرية، وبالغ في الادعاء، فإن هذه السنة لم تجتمع عند الصحابة، ولا عند التابعين، ولا عند كبار الأئمة المصنفين.