الاختلاف في فهم النص

السبب الرابع: أن الآية أو الحديث قد يبلغ هذا العالم، ويثبت عنده الحديث، لكن لا يرى أنه يدل على هذه المسألة التي يقع عليها هذا الاختلاف، فمثلاً فيما يتعلق بالقرآن الكريم، يقول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] فالعلماء اختلفوا اختلافاً واسعاً في تحديد القرء، فمنهم من قال: إن القرء هو الطهر، ومنهم من قال: القرء هو الحيض، وحين ترجع إلى كتب اللغة تجد أن من علماء اللغة من قال: إن القرء من ألفاظ الأضداد، الذي يطلق على الطهر ويطلق على الحيض.

ومن هنا جاء الاختلاف، فمن يقول: إن القرء هو الطهر ليس له أن يعتبر أن من يقول: لا.

إن القرء هو الحيض مخالف للآية، لأنه يقول بمضمون الآية، لكن يرى أن دلالة الآية ليست كما فهمها الآخر.

وفيما يتعلق بالسنة -والأمثلة بطبيعة الحال كثيرة جداً، لكن أكتفي بمثال واحد على الأقل حتى يفهم السبب- مسألة الوضوء من لحم الجزور، هذه ورد فيها أحاديث، منها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم: {سئل: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم.

فتوضأ من لحوم الإبل} فهذا الحديث أخذ منه الإمام أحمد وغيره من فقهاء السنة وجوب الوضوء من لحم الإبل، ولكن هناك علماء آخرون منهم الأئمة الثلاثة قالوا: لا يجب الوضوء من لحم الإبل، فما موقفهم من هذا الحديث؟ الحديث ثابت عندهم وصحيح، لكن حملوه على محامل، منهم من يقول: إن هذا للاستحباب وليس للوجوب، ويستدلون بأنه قال في أول الحديث: {أنصلي في معاطن الإبل؟ قال: لا قال: أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم} فقالوا: إن قوله: نعم لا يدل على وجوب الصلاة في مرابض الغنم، لكن يدل على جوازها.

وكذلك لما سئل أنتوضأ من لحوم الإبل قال: نعم.

فإن هذا لا يدل على الوجوب، وإنما يدل على الاستحباب، والذي يظهر لي أن الراجح في هذه المسألة هو وجوب الوضوء من لحم الإبل، لقوة الأدلة وصراحتها في ذلك، ولأن هذا نقل عن جمهور الصحابة، أنهم كانوا يتوضئون من لحوم الإبل.

ولكن يبقى أن الخلاف في المسألة له أصوله التي يعتمد عليها، وليس مبنياً على مجرد التحكم أو الهوى، وإنما هو مبني على أن دلالة الحديث على المقصود ليست دلالة قطعية لا تحتمل الخلاف، وإنما هي دلالة ظنية أو استنباط، قد تكون راجحة لكنها ليست قاطعة.

فنحن نقول: الراجح كذا، لكن لا نعتبر أن المخالف ضال أو منحرف، أو مخالف للدليل، أو ما أشبه ذلك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015