الخلاف العلمي بين أهل السنة وأسبابه

القسم الأول: الخلاف العلمي؛ وأعني بالخلاف العلمي ما يوجد من اختلاف بين العلماء وطلاب العلم في المسائل العلمية، سواء كانت في الأصول، أو الفقه، أو الحديث، أو التفسير، أو في غيرها، وهذا خلاف طويل عريض، ويوجد من الاختلاف بين المفسرين في تفسير القرآن الكريم مثلاً، وبين المحدثين في إثبات الأحاديث أو تضعيفها، وبين علماء الرجال في توثيق الرجال أو تضعيفهم، وبين الفقهاء في المسائل الفقهية، كما يوجد بين غيرهم من أصحاب العلوم الأخرى، كالخلاف بين النحاة والبلاغيين، وأصحاب العلوم الأخرى كافة، اللهم إلا العلوم الرياضية التي هي عبارة عن أرقام حسابية لا يكاد يوجد فيها اختلاف.

فيوجد بين أصحاب هذه العلوم الشرعية من الخلاف كما يوجد بينهم من الوفاق، وليس صحيحاً ما يصوره بعضهم من أن كل مسألة فيها خلاف، فقد شاع عند الناس مثلاً: إذا قيل: ما حكم كذا؟ فيقول أيُّ واحد في المجلس: فيه خلاف! على سبيل السخرية، أو الإشارة إلى أنه ما من مسألة إلا وفيها اختلاف.

والواقع أننا لو تأملنا ونظرنا نظرة علمية متعمقة، بعيدة عن السطحية والارتجال، لوجدنا أن المسائل المتفق عليها بين الأمة مسائل كثيرة جداً، لكن لأنها مسائل متفق عليها لا يثور فيها خلاف، وبالتالي ليس الناس بحاجة إلى التداول فيها، لأنها مسائل مفروغ منها، ولا شك -أيضاً- أن هناك مسائل كثيرة جداً هي الأخرى فيها اختلاف بين العلماء، وقد يكون هذا الاختلاف على أقوال كثيرة، أذكر على سبيل المثال: أن الإمام ابن القيم في كتاب زاد المعاد لما تكلم عن خصائص الجمعة، وعد منها ساعة الإجابة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في هذه المسألة ما يزيد على عشرة أقوال.

ولما تكلم الحافظ ابن حجر وغيره أيضاً على مسألة ليلة القدر وتعيينها، والأقوال فيها، ذكر ما يزيد على أربعين قولاً.

ولما تكلم الإمام الشوكاني في الفتح الرباني في فتاويه، عن قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {إن الله تعالى يقول: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به} ذكر في تفسير هذا الحديث، وفي معنى كون الصوم لله (فإنه لي) نحواً من خمسة وخمسين قولاً في هذه المسألة.

نعم.

يوجد اختلافات قد تصل إلى هذا الحد الذي ذكرت وقد تكون دون ذلك أحياناً، فلسنا ننفي أو ننكر وجود الاختلاف بين العلماء وبين المسلمين، في هذه القضايا العلمية.

لكن أقول: إنه يجب أن يكون نظرنا في هذا الاختلاف معتدلاً، فلا نبالغ في إثبات الخلاف، كما أننا -أيضاً- لا نبالغ في نفيه، فنقول: يوجد بين العلماء في سائر العلوم من الاختلاف مثل ما يوجد بينهم من الاتفاق أو أكثر، أو أقل من ذلك، وهو أمر لا مجال إلى إنكاره بحال من الأحوال.

وهذا الخلاف الذي نستطيع أن نسميه الخلاف العلمي له أسباب؛ أستطيع أن أشير إلى ستة أسباب منها، وهي أسباب منطقية:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015