الإمام مالك هذا الرجل القوي العزيز، الذي ما ذل ولا تنازل ولا أتى إلى البلاط، ولا رأى أن يقرأ على الخليفة ولا على أولاده ولا على مبعوثيه، هذا الإمام تعرض لفتنة عظيمة: كان يفتي في مجلس علمه أنه ليس على المستكره طلاق، فالإنسان أو الرجل إذا أكره على طلاق زوجته، فإن الطلاق لا يقع، هكذا كان يفتي الإمام مالك، وينقل في ذلك كلاماً عن الإمام علي بن أبي طالب وغيره، أنه قال: [[ليس على مستكره طلاق]] .
فجاء بعض المنافسين من أهل السوء الذين استغلوا موقعهم السلطوي -كما ذكرت قبل قليل- في تشويه سمعة العلماء، وتشويه أقوالهم واتهام نياتهم ومقاصدهم، فقالوا لـ أبي جعفر المنصور: هل تدري ماذا يقصد مالك بقوله: ليس على مستكره طلاق؟! قال: لا، قالوا: يعني: أن البيعة التي تأخذونها أنتم على شعبكم ورعيتكم بالقوة وبالإكراه، أنها لا تنفذ، وأنه لا يراها، فقاموا وأحضروا مالكاً وأركبوه وجلدوه أربعين جلدة، وضربوه حتى أصابه هذا الضرب في يده فكان يحمل إحدى يديه بالأخرى، قد ارتخت أعصابها من شدة الضرب والجلد.
رجل عزيز منيع شريف كبير القدر عالم، مع ذلك رضي بالسجن وبالجلد وبالإهانة، ورضي بأن يبعد ويسخط عليه؛ لأنه لا محاباة ولا مجاملة في دين الله تعالى، وإذا فتحنا أبواب التأويل فإن هذا الباب لا يغلق أبداً، وما أفسد الدين -أصوله وفروعه عقائده وأحكامه- إلا كثرة التأويل في دين الله تعالى وصرف النصوص عن ظواهرها.
دخل هؤلاء في تفسير نيات الإمام مالك ومقاصده، وماذا يقصد من وراء الكلام، فحاسبوه على كلام لم يقله، وغفلوا عن الكلام الذي قاله، مع أن شريعة الله تعالى لا حساب فيها، على الإنسان في هذه الدنيا إلا على ما قاله بلسانه، وتلفظ به أو فعله بنفسه، ولكن كثيراً من الظالمين والمتعجلين والحاسدين لا يعلمون.
قال الإمام الواقدي: والله مازال مالك بعد في رفعة وعلو.
هل ترى أن هذا الضرب أساء إلى مالك أو حط من قدره؟! كلا، بل كان هذا جزءاً من تاريخه، وأنت إذا قرأت سيرة عالم، فوجدت أنه ضرب وسجن وأوذي ومنع وحورب كبر في عينك، وعظم في نفسك، وعرفت أنه رجل مواقف ورجل مبادئ، ورجل صدق ورجل إخلاص، فكل هذه الأشياء تسجل في تاريخه، وتكتب في صحائفه، ولهذا قال الواقدي: والله مازال مالك بعد في رفعة وعلو.
قال الإمام الذهبي في "سير أعلام النبلاء" قال: هذه والله ثمرة المحنة المحمودة، إنها ترفع العبد عند المؤمنين، نعم قيل لـ الشافعي رحمه الله: أيهما أحسن للإنسان أن يمكَّن أو أن يبتلى؟ قال: [[لا يمكّن حتى يبتلى]] إنه جزء من تاريخ العالم الصادق، أن يصبر على دين الله، وعلى شريعة الله، ويقول ما يعتقد أنه الحق، ويصبر في سبيل ذلك.