اللقطة الأولى

جاء إمام من الأئمة وشيخ جليل، فجلس في مجلس مالك، فسأله عن مسألة، فأعرض عنه، ثم أعادها عليه فأعرض عنه، ثم أعادها عليه، فقال له الإمام مالك: يا هذا إذا رأيتني جلست لأهل الباطل، فتعال أجبك معهم.

يعني: هذه المسألة التي تطرحها الآن ليس لها قيمة؛ لأنها لا تقرب من الجنة، ولا تباعد عن النار، ولا تصلح ديناً ولا دنيا، فلا شأن لي بها، فإذا رأيتني يوماً من الأيام -ولن تراني- جالساً للبطالين وأهل الباطل، فتعال حتى أجيبك معهم، أما الآن فلا أشتغل بما تقول، إذًا فكثير من المسائل إذا تأملتها وجدتها لا تغني في دنيا ولا في دين.

ولهذا -أيضاً- جلس رجل في مجلس مالك فقال: يا إمام! قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟! فأعرض عنه الإمام مالك حتى علاه الرحضاء، وتصبب منه العرق، ثم قال: [[الاستواء غير مجهول]] يعني: معروف المعنى في لغة العرب، [[والكيف غير معقول]] يعني: تكييف الصفة مما لا تحيط به العقول، ولا يطيقه الإنسان، ولا يعلم كيف الصفة إلا الله جل وعلا، [[والاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا رجل سوء]] ثم أمر الإمام مالك بهذا الرجل فأخرج من مجلسه.

إذًا هذه الأغلوطات، وهذه المسائل، وهذه الإشكالات، وهذه المهاترات، ليس مكانها مجالس العلم، ولا مجالس الذكر، فالعلم هو أشرف وسيلة يتقرب بها إلى رضوان الله تعالى والجنة، وليس وسيلة إلى كسب الأتباع، ولا إلى الشهرة، ولا إلى كسب الدنيا والمال، ولا إلى غير ذلك.

فمتى انحرف العلم عن هذا الهدف؛ فإن الجهل حينئذٍ يكون خيراً منه، لهذا كان من أقوال الإمام مالك، وهي أقوال عظيمة مضيئة: كان يقول: "لا أحب علماً ليس تحته عمل".

يا أخي بالله عليك! تأمل ما تشتغل به أنت من العلم الشرعي قل أو كثر، هل هو من العلم الذي تحته عمل؟ هل هو يثمر لك خشوعاً في قلبك؟ أو طاعة لربك، أو تحسيناً وإصلاحاً لعبادتك، أو نظافة لضميرك، أو صلاحاً لظاهرك، أو حتى نفعاً لدنياك؟! فحبذا، إن كان علمك علماً مقرباً إلى الله، ترى أنه صحح قلبك، وصحح نيتك، ونور بصيرتك، وقربك إلى الله، وجعلك أكثر خشوعاً وزهداً وتقوى وطاعة، فهذا هو العلم النافع، أو ترى أن علمك الذي تشتغل به -أيضاً- علم دنيوي نفعك في زراعة أو حرث أو تجارة أو إدارة أو صناعة، أو كسب، أو معيشة، فهذا -أيضاً- من العلم الذي يحتاج إليه، ولا غنى للإنسان عنه، فإن لم يكن هذا ولا ذاك، فأنصحك أن تراجع ما تشتغل به.

وكأن الإمام مالك يقدم لك النصيحة نفسها، في كلمة أخرى مضيئة فيقول لك: "رحمك الله، انظر ما ينفعك في ليلك أو نهارك فاشتغل به"، انظر ما ينفعك: يعني في دينك أو دنياك في ليلك أو نهارك فاشتغل به.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015