قال الهيثم بن جميل: سمعت الإمام مالكاً سئل عن ثمان وأربعين مسألة فأجاب عن اثنتين وثلاثين مسألة منها بقوله: لا أدري، وأجاب عن ست عشرة مسألة بما يعرف.
وكان مالك نفسه يقول: جُنّة العالم لا أدري، فإذا أغفلها أصيبت مقاتله.
قال الإمام ابن عبد البر المالكي: صح عن أبي الدرداء أن لا أدري نصف العلم.
إذًا لم ير مالك أن تصدره معنى أنه قد بلغ الغاية والكمال، بل رأى أنه كما قيل:- فقل لمن يدعي في العلم معرفة حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء ولهذا كان يعتصم بـ"لا أدري" ويقول: من تركها أصيبت مقاتله، ولا أدري نصف العلم، وربما سئل عن أربعين مسألة اعتذر عن أكثرها، فإذا قال له السائل: ماذا أقول لأهل البلد؟ قال: قل لهم يقول مالك: لا أدري.
هذا هو العلم، وأحلف بالله أن ثمة مسائل، ربما من هذه المسائل الثمان والأربعين أو غيرها، لو عرضت على مالك لاعتذر عنها وقال: لا أدري، ولكنها لو عرضت اليوم عليّ أو على بعض طلبة العلم ممن هم أقل شأناً، وأقل علماً، لهجموا عليها دون تردد، وتسارعوا إلى الكلام فيها والفتيا.
وربما مسألة لو عرضت على عمر، لجمع لها أهل بدر، لكن لو عرضت على واحد من صغار الطلبة، لرأى أن هذه المسألة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، ولا تحتاج إلى كلام، وكما كان السلف الصالح يتدافعون الفتيا، وكل واحد يحيلها على الآخر، أصبح الكثيرون اليوم يتنازعون الكلام، وكل واحد منهم يحاول أن يقول ويتكلم، ويفتي قبل أن يسبقه غيره إلى ذلك.