انتشار العلم في عهود السلف

لم يكن العلم إجبارياً كما هو اليوم، ولا شك أننا نعلم علم اليقين، أن الكثيرين من شباب السلف الصالح، انصرفوا للجهاد، وكانوا يذهبون وراء الرايات المعلنة للرباط على الثغور، ومقاومة أهل الكفر والإلحاد والفجور.

ونعلم أن الكثيرين -أيضاً- انصرفوا للتجارة والبيع والشراء وأمور المعاش، التي لا قوام لحياتهم إلا بها، وأن الكثيرين أقبلوا على الزهد، وعلى أمور الآخرة، وعلى العبادة، وأعرضوا عن الناس، واعتزلوهم إلا فيما لابد لهم منه، هذا كله كان يقع.

ليس صحيحاً أن كل شباب السلف الصالح، كانوا في مجالس العلم الشرعي، وإنما كان منهم من تقوم بهم الكفاية، ويتحقق بهم الأمر الرباني {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] .

والإمام مالك، يقف اليوم بين أيدينا نموذجاً لرجل متخصص، رأى أن مواهبه وإمكانياته ومَلَكَاتِه تمكنه أن يخدم الإسلام في مجال حفظ العلم، ونشره وتعليمه والعمل به.

التقى الإمام مالك بالكثيرين من أصحاب الدنيا، فأغروه بترك العلم، فأشاح عنهم بوجهه، وأعرض، ورأى أن ما عند الله خير وأبقى، والتقى بالكثيرين الذين دعوه إلى أن يشتغل بالجهاد ويترك العلم، فرأى أن ما اشتغل به خير، وأن ما اشتغلوا به هم -أيضاً- خير، وأن فروض الكفايات لا يغني بعضها عن بعض، وكلٌ على ثغرة من ثغور الإسلام.

والتقى بالزهاد، كما التقى بـ عبد الله بن عبد العزيز العمري، الذي كان إذا خلا بالإمام مالك حثه على الزهد والانقطاع والعزلة عن الناس، فكان مالك يصغي إليه ويدعو له، لكن لا يأخذ برأيه، واليوم أين عبد الله بن عبد العزيز العمري؟ من منا أو منكم يعرف هذا الرجل مع أنه كان إماماً في الزهد والتقوى والورع والعزلة والانقطاع عن الناس؟! لكن من منا بل من المسلمين كلهم من لا يعرف الإمام مالك إمام المدينة النبوية وإمام المسلمين؟! لقد نسي الناس العمري الزاهد، ولكن ما زالت الأمة كلها عبر ثلاثة عشر قرناً من الزمان تتذكر الإمام مالك، الذي حفظ على الأمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حجة من حجج الله تعالى على خلقه كما قال يحيى بن معين.

فهذا هو العلم الشرعي الذي يحفظ الله تعالى به الدين على الناس، ويحفظ الله تعالى رموز هذا العلم، فلا يزال لهم لسان صدق في الآخرين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015