إنكار المُواقِعْ للمنكر

Q فما رأي الشرع فيمن أقام على معصية وهو في الخفاء وهو في موقع القدوة، ويعترف بأنها معصية وأنه عاص لله تعالى، ثم يخرج وينكر هذه المعصية وينصح الناس بتركها، فهل يجوز له ذلك؟

صلى الله عليه وسلم هذه من المسائل التي اختصرتها لضيق الوقت، وهي: الفاسق أو العاصي أو الواقع في المنكر، أيحتسب ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أم لا؟ والجواب: نعم! حكمه كغيره من المسلمين، هذا القول الصحيح الذي عليه جماهير العلماء من السلف والخلف، أن الإنكار عليه واجب ولو كان واقعاً في المعصية، ولذلك يقول ابن عطية في كتابه المحرر الوجيز، يقول: الإجماع على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب لمن أطاقه وأمر بمعروف، وأمن الضرر على نفسه، وليس من شرط الآمر والناهي أن يسلم من جميع الذنوب والمعاصي، ثم قال: وقال بعض الأصوليين: حق على من يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضاً.

وقال بعض السلف -أظنه الحسن البصري -: لو لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر، إلا من كان سالماً من ذلك، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى أحد عن منكر، قال الإمام مالك -تعليقاً على هذا-: من ذا الذي ليس فيه شيء، من هو سالم من المنكرات والمعاصي؟! والدليل على هذا أن تعلم أن الله أمرك بأربعة أشياء:- فعل المعروف، والأمر به، وترك المنكر، والنهي عنه، والإخلال بواحد من هذه الأمور لا يبيح لك في شرع الله ودينه أن تخل بالآخر.

وهذه القضية ظاهرة، ولهذا يقول الله عز وجل عن بني إسرائيل بعد أن ذكر لعنهم قال: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:79] أليس العتاب لهم الآن لأنهم لم ينتهوا عن المنكر الذي فعلوه؟! إذاً كان يجب عليهم أن يتناهوا عن المنكر وهم يفعلونه، كان يجب عليهم أن يتناهوا عن المنكر الذي فعلوه، وهذه قضية استغرب أن كثيراً من الناس حين يسمعونها يتعجبون منها، يا سبحان الله!، هل تقصيرك ووقوعك في المنكر يجيز لك أنك تقع في معصية أخرى وهي ترك النهي عنه، من قال هذا؟! طبعاً بعض الناس قد يتمسكون بأدلة يفهمونها فهماً على غير وجهها، مثل {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] ومثل {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] ومثل حديث أسامة {في الرجل الذي يلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع إليه أهل النار، يقولون: يا فلان مالك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه} والحديث في الصحيحين.

والجواب: أن هذه الأدلة فهمت على غير وجهها، فمعنى قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] أن الإنسان لا يصح أن يقول ما لا يفعل، كأن يدعي شيئاً ليس فيه، فيقول: قاتلت، جاهدت، فعلت، وهو لم يفعل، فإن الله يمقت على الإنسان أن يدعي ما لا يفعل: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] .

أما الآية الأخرى في بني إسرائيل والحديث، فإن العقوبة ليست لأنهم أمروا بالبر أو لأن الرجل كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا!، إن عقوبة بنى إسرائيل لأنهم نسوا أنفسهم، فعذبوا لأنهم وقعوا في المنكرات، وعقوبة الرجل لأنه كان يأتي المنكر ويترك المعروف، إذاً: العقوبة ليس لأنه أمر ونهى، وإنما لأنه فعل المنكر وترك المعروف، فلينتبه لهذا.

وأضرب أمثلة تقرب الموضوع لكم: افترض أن والياً أو مسئولاً في جانب من جوانب الحياة، أو في مكان ما، يقع في بعض المعاصي، قد يشرب الخمر؛ فهل شربه للخمر يجعله يسمح للناس أن يشربوا الخمور في الشوارع، أو في بيوتهم، هل يقول أحد بهذا؟! ما قال أحد من المسلمين بهذا -أبداً-!، فيجب عليه أن يمنع الناس وينكر عليهم، ولو كان في ذاته واقعاً فيها.

مثلاً: أب في بيته واقع في معصية، لنفترض التدخين -مثلاً- أو سماع الغناء، أليس واجباً عليه أن يمنع أبناءه؟ بل يجب عليه أن يقول لهم: يا أبنائي! أنا وقعت في هذا المنكر، وعسى الله أن يتوب عليَّ، وربما الخروج منه صعب بعد أن تورطت، ولكن أنتم ما دمتم بعيدين فانجوا بأنفسكم ولا تتورطوا في هذا الأمر، لكن يشترط ألا يكون على سبيل السخرية، أما أن يقوم أحد بإعطاء الآخر كأس الخمر، ويقول له: تفضل، اشرب ترى هذا حرام، هذا يسخر.

بل يلومون أنفسهم: إنما نحن مخطئون، عسى الله أن يتوب علينا، هذا لا شك في تحريمه، نحن مقرون بذنوبنا، وما أشبه ذلك، فهذا يكون إنكاراً بلطف على نفسه وعلى من حوله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015