وهذه قضية تلاحظونها، بعض الناس إذا رأوا غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اليوم في مجتمعات المسلمين يظنون أن المشكلة -فقط- هي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد انتهى أو ضعف، والواقع أن المشكلة مضاعفة، لأنه إذا ضعف الأمر بالمعروف قوي الأمر بالمنكر، وإذا ضعف النهي عن المنكر قوي النهي عن المعروف، والأمثلة التي أشرت إليه سابقاً تؤكد هذا الأمر.
حتى في السنن التي وضعها الله في المجتمعات (السنن الاجتماعية) ، مثلاً: ربما أكون مثلت بموضوع التبرج والتستر، لنفترض أن مجتمعاً من المجتمعات، يحافظ على الشروط الإسلامية لحجاب المرأة ولباسها، فإذا وجدت امرأة أو اثنتان متبرجتان، وجدت المجتمع كله ضد هذه الظاهرة، يحاربها، حتى الذين قد يكون ليس لديهم دين، يحاربونها لأنها تعتبر ظاهرة شاذة في المجتمع، ولذلك سرعان ما تتلاشى هذه الظاهرة، لماذا؟ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوي في هذا المجتمع، والغلبة هي لهما، لكن اعكس الصورة، وتصور مجتمعاً يشيع فيه التبرج كمجتمعات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وقد رأيناها وسمعنا عنها، تجد أن العرف السائد في المجتمع أن الفتاة تخرج إلى المدرسة، وإلى السوق، وإلى جميع أعمالها، وقد لبست ثوباً يظهر ذراعيها، وعضديها، وساقيها، فضلاً عن الوجه والشعر والرقبة والنحر، وهذا هو اللباس المعتاد الشائع، فإذا رأيت امرأة قد سترت شعرها، وذراعيها، وساقيها، اعتبرت هذا الأمر غير مألوف في ذلك المجتمع، تصور كم تعاني هذه المسلمة في مثل تلك المجتمعات؟! كم تعاني من الكلام من الأبوين، من الزميلات في المدرسة، من القريبات، في المناسبات والزواجات، في الشارع كم تعاني؟! تعاني الأمرين؛ لأنها تسبح ضد التيار -كما يقال- إذاً المجتمع له قوة، فإما أن تكون قوته أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وأخذاً على يد السفيه، أو تكون العكس، نهياً عن المعروف وأمراً بالمنكر.
وهذه قضية ينبغي أن ينتبه لها، إن المجتمعات لها خط بياني صاعد أو نازل، إذا نزل المجتمع بدأ يهبط، لاحظ أن هبوطه لا يقف عند حد.
ولذلك شرع الإسلام موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهنا نلاحظ قضية في غاية الأهمية في هذا الموضوع، وهي أن أصل وجود المنكر قليل مُسْتَخْفٍ، هو أمر طبيعي مألوف، ليس بغريب، حتى في أفضل المجتمعات وأكثرها استقامة على أمر الله ورسوله: مجتمع الصحابة، وهو المقياس -كما أسلفت- ومع ذلك كان فيه المنافقون، الذين قال الله عنهم: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة:67] وكانوا موجودين، والمسلمون أنفسهم منهم من يواقع بعض المعاصي، وفي الصحيحين من ذلك أشياء.
مثل قصة الرجل الذي زنى، وهو ماعز بن مالك رضي الله عنه، فتاب توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، ومثله الغامدية التي جادت بنفسها لله عز وجل، ومثلهم الرجل الذي أصاب من امرأة ما دون الزنى، لكنها حالات نستطيع أن نقول عنها: إنها فردية، ولذلك فهي مستترة مستخفية.
ولذلك -أيضاً- انظر! كيف موقف الواقع في المنكر نفسه، ما أسرع ما يستيقظ ضميره، وما أسرع ما يتوب إلى الله عز وجل، ولا يحتاج إلى متابعة ورقابة، رقابته قلبه، خوفه من الله عز وجل، يقوده إلى أن يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! زنيت فطهرني، يعرض عنه الرسول ذات اليمين عليه الصلاة والسلام، ويأتي إليه من قبالة وجهه، يعرض عنه ذات الشمال يأتي إليه، أربع مرات في مجلس واحد: يا رسول، زنيت فطهرني، فيقول عليه الصلاة والسلام: بك جنون} هل هو سكران؟ لا هذا ولا ذاك، لم يقام عليه الحد.
وأعجب من ذلك المرأة! تشهد على نفسها بالزنا، ثم يأمرها الرسول صلى الله عليه وسلم أن تذهب حتى تلد، لأنه عندما رأت أنه يريد أن يردها، قالت: لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً، أي هي عارفة ما هو مصيرها، ما جاءت وهي لا تدري ماذا سيفعل الرسول عليه الصلاة والسلام بها، بل تعرف مصيرها، وأنها سترجم.
ثم تأتي وتقول: يا رسول، زنيت فطهرني، فترى أن الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يردها وتقول: وهي تريد أن تقطع الطريق: يا رسول الله، كأنك تريد أن تردني كما رددت ماعزاً، والله إني لحبلى من الزنى، قال عليه الصلاة والسلام: {أما لا، فاذهبي حتى تلدي} ذهبت تسعة أشهر، يمكن أن يقول قائل: لما جاءت أول مرة كانت حرارة الندم في قلبها، لكن تسعة أشهر وهي لا زالت يقظة الضمير، بعد تسعة أشهر تأتي بالصبي.
فيقول صلى الله عليه وسلم: {اذهبي حتى تفطميه} أيضاً ربما جلست سنتين أو أقل من ذلك، حتى فطمته، ومبالغة منها في إثبات أنها فطمته، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده كسرة خبز، وقالت: يا رسول الله! لقد فطمته، فيأمر بالصبي إلى بعض الأنصار ويرجمها، إن هذا يدل على قوة الإيمان في نفوسهم، أي: كانوا رجالاً حتى حين يقعون في المعصية، فيسارعون بالتوبة والإقلاع والندم، الذي يجعلهم يفعلون مثل هذه الأفعال.
إذاً: مجرد وجود معاصٍ قليلة مستترة أمر عادي، وبعضهم يشبهون هذا بما يقوله الأطباء والمراقبون على الصحة العامة، حينما يقولون: إن هذا المجتمع سليم من الأمراض، هل يقصدون أن هذا المجتمع جميع أفراده أصحاء (100%) ، كلا! إنما يقصدون الأمراض العامة، والأوبئة الفتاكة والمعدية، وأنها ليست موجودة، أما وجود حالات مرضية فهو أمر طبيعي في أي مجتمع من المجتمعات.