مجاهدة النفس

Q فضيلة الشيخ! ما هو الذي يعين على سلوك هذا السبيل الذي يؤدي إلى الحقيقة؟

صلى الله عليه وسلم هذا موضوع طويل، المعين على سلوك هذا السبيل، يمكن أن أقول: لو تحدثنا عن هذا السبيل لكان مجال تطبيقه هو حياة المسلم كلها؛ لأن المؤمن لا يزال في جهاد من يوم أن يبلغ سن التكليف إلى آخر لحظة من عمره، وهو في جهاد، هذا الجهاد المطلوب هو الذي به تتحول الصورة إلى حقيقة، وربما أكثركم سمع أشياء كثيرة جداً بهذا المجال: الصلاة مثلاً، قراءة القرآن، صحبة الطيبين، طلب العلم، كثرة الذكر، الكف عن المعاصي، إلى غير ذلك من الأعمال التي تقوي الإيمان.

ولكن هناك أمر آخر هو الذي ربما أشرت إليه إشارة عابرة، وهو: مجاهدة القلب، التذكر، تذكر هذه المعاني بحيث أحرص على تربية نفسي على هذه الأمور، فأحياناً تمر بك لحظات مثلما ذكرت، تتصور بها الجنة، ونعيم الجنة، وأنه لا يحول بينك وبين الاستمتاع بهذه الأشياء إلا الموت فقط، فلما تسيطر هذه الفكرة عليك تجد أنها -فعلاً- حركت قلبك.

العذاب -أيضاً- عندما تمر بك لحظات تتفكر بعذاب جهنم وكيف حجم العذاب، وطاقة الإنسان، أو عذاب القبر -مثلاً- وأنه لا يحول بين هذا الإنسان وبين هذا العذاب إلا أن يموت.

هذه الأشياء التي تجعل المعاني تتحول إلى حقائق في القلب في الحقيقة، ولذلك أقول لا تيأس حاول ثم حاول ثم حاول ثم حاول، وإذا حصلت على أدنى النتيجة فافرح بها؛ لأن الشيطان يأتي الإنسان وهو يحاول الترقي والصعود فيقول له: أنت بذلت جهدك، وحاولت وحاولت -مثلاً- حاولت أن تخشع في الصلاة ولم تنجح، حتى يقنع الإنسان، فيقول له: اجعل نفسك مثل غيرك، صلِّ كصلاة غيرك ولا تحرص على العناية بالنية.

بل ربما يكون للشيطان مدخل أخطر من هذا، أنا اقو ل لكم هذا وأنا أتوقع أن يكون عدد منا يأتيه الشيطان من هذا المدخل، يقول لك: الشيطان عندما تبدأ تفكر في هذه الأمور وتعد نفسك للخوف من الله، وتذكر الجنة والنار، يبدأ الشيطان -أحياناً- يلقي إليك بعض الوساوس، وبعض الأوهام، وبعض الشبهات في قلبك، فيقول لك الشيطان بالطريقة هذه، يقول لك: الطريق مخيف، اجعل إيمانك مثل إيمان العوام، لا تفكر أو تحاول أن تحول الإيمان إلى إيمان حقيقي؛ لأن هذا خطأ يمكن أن يؤدي بك إلى أن تتخلى عن الإيمان بالكلية، أحياناً يأتي الشيطان من هذا المدخل، ولا أدري هل هو واضح أم لا؟ أيضاً وللمزيد من الإيضاح: عندما يرى الشيطان أنك توجهت إلى تحويل إيمانك إلى حقيقة وحاولت ملئ قلبك بالمعاني الإيمانية -مثلاً- تبدأ تتذكر عظمة الله ومخافة الله فعندما يأتي الشيطان فيلقي في قلبك شبهة من الشبهات الكثيرة، التي مازال الشيطان يلقيها في قلوب الناس، فإذا رأيت أنت أن الشيطان جاءك من هذا الطريق وألقى هذه الشبهة، ضعف عزمك، جاءك الشيطان وقال لك: ربما يكون هذا الطريق الذي بدأت به الآن، طريق تحقيق الإيمان، يجعلك تفكر في أمور كثيرة، وتوسوس في أمور كثيرة، حتى يزول إيمانك، وتترك تحقيق الإيمان، ويرجع الإيمان كإيمان العوام، يصلون، ويصومون، ويقرءون وهكذا.

فيخيفك الشيطان بالوساوس عن مواصلة الطريق، وهذا ليس بغريب؛ لأن هذه مهمة الشيطان، لكن المؤمن لا يقبل هذه الوسوسة، ويدرك أن الله عز وجل وعدنا وعداً قاطعاً في القرآن الكريم بأن نتيجة الجهاد ليست هذه، بل نتيجة الجهاد -قطعاً- هي الهداية، وهذا أمر قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] وهذا وعد، والله لا يخلف الميعاد، المهم أن تجاهد -أولاً- وأن تجاهد في الله، فيكون جهادك لله وفي الله، وإذا حققت لنفسك هذين الأمرين فاقطع قطعاً بأنه سوف يتحقق لك الأمر الثالث، وهو: (لنهدينهم سبلنا) وإذا حدث لك نقص في الهداية، فاعلم أنه بسبب نقصٍ في المجاهدة عندك، أو بسبب نقصٍ في النية -أيضاً- لأن الإنسان قد يجاهد نفسه في أعمال الخير، ولكن لا يكون جهاده لله تماماً، يمكن أن يكون جهاده لأجل الشهرة، قد يطلب الإنسان العلم طلباً جاداً، ولو فتش في قرارة قلبه لوجد أنه يريد في المستقبل أن يكون عالماً يشار إليه بالبنان، يقال له العالم فلان بن فلان، فهذا وإن جاهد إلا أن الجهاد ليس متحققاً بالشرط الثاني وهو: فينا (جاهدوا فينا) -أي: في الله- فحقِّق الأمرين: الأمر الأول أن تجاهد -فعلاً- وتبذل الجهد، الأمر الثاني: أن يكون جهادك في الله لا من أجل فلان ولا من أجل أمر آخر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015