الإيمان بالموت

تصور معي نموذجاً آخر للفرق بين الصورة والحقيقة: قضية الموت: الموت يؤمن به حتى الكفار، وقد حكى الله عنهم في القرآن أنهم يقولون: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} [المؤمنون:82] فالكافر نفسه يعرف أنه سيموت، وأنه سيكون تراباً -فضلاً على الموت- ومع ذلك جاء الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: {لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع وذكر منها ويؤمن بالموت} .

فهل يوجد أحد لا يؤمن بالموت؟ فمن حيث العقل لا يوجد أحد إلا ويؤمن بأنه سيغادر هذه الدنيا، بما معناه أنه سوف يموت، إذاً ما هو المطلوب منا؟ ماذا يريد منا الرسول عليه الصلاة والسلام حين يطلب منا أن نؤمن بالموت؟ ما دام أنَّا عارفون أن الموت واقع، بل والكفار أيضاً عارفون أن الموت واقع، فلماذا اشترط الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نكون مؤمنين أن نؤمن بالموت مثلما نؤمن بالبعث بعد الموت.

أقول: ما هو الشيء الذي يطلبه منا الرسول عليه الصلاة والسلام؟ يطللب منا ذلك لأمرين: الأول: أن نؤمن بما يحصل بعد الموت، -على سبيل المثال- بعذاب القبر، بنعيم القبر أيضاً، بفتنة الملكين في القبر هذا شيء.

والأمر الأساسي المطلوب منا -أيضاً- أن تَحوَّل القناعة بالموت عندنا من صورة إلى حقيقة، هي الآن موجودة عندنا هي عند غيرنا من الناس، لكن وجودها صورة فقط، من حيث العقل أنا عارف أني سأغادر الدنيا، لكن يوجد فرق بين إنسان عارف أنه سوف يفارق الدنيا، فيقول: هات، دعني أعب من اللذات عباً، ودعني أستمتع بالملذات؛ فإن العمر قصير، مثلما يقول عمر الخيام في رباعياته وغيره من الفساق، الذي يقول: (هات اسقني من الخمر، واعطني من اللذات، لأتمتع لأن العمر قصير) .

فرق بين إنسان يؤمن بالموت بالطريقة هذه، وبين إنسان يؤمن بالموت من منطلق أن الموت هو بداية وليس نهاية، أن الموت بداية للمراحل الحقيقية من الآباد والآمال التي لا تنتهي.

ومن هنا يكون الموت دافعاً له ليعمل، ويجاهد في سبيل الله، يجاهد نفسه، ويجاهد من حوله، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يتعلم، إلى آخره.

فالفرق بين الصورتين في ذلك، صورة الموت كحقيقة واقعة موجودة في أذهان الجميع، لكن تحَوُّل هذه الصورة إلى شعور في القلب، ويقظة في الضمير هي المطلوبة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015