أما النظام الدولي المطروح الآن الذي تنادي به أمريكا، فمن الواضح أنه نظام يقوم على أساس فرض تسلط أمريكا على العالم، ويتدخل حتى في القرارات المحلية والقرارات الداخلية للدول -كل الدول- بشكلٍ يدعو إلى الاشمئزاز، ويؤكد أن الشعوب وأن الدول كلها وإن سكتت لفترة زمنية معينة من باب الضرورة، إلا أنها لا يمكن أن تصبر على هذه الأطماع الغربية التي لا يمكن أن تنتهي وأن تقف عند حد.
فهذه الشعوب المبتلاة بالظلم والطغيان الأمريكي، والتسلط والاستكبار الأمريكي، هي الأخرى تحمل نفس الطموحات ونفس الأطماع، فإذا كانت المسألة مسألة تسلط شعب على شعب فما الذي يجعل الشعب الأمريكي يتسلط على الشعب الياباني -مثلاً- أو على الشعب الأوروبي، أو على الشعوب الإسلامية والعربية، أو على الشعوب الروسية -مثلاً- كلا، ليس هو أحق منها بالتسلط.
أما حين تكون القضية قضية دين فإن الجميع يذعنون له ولابد؛ ولذلك أتلو عليكم هذا الخبر الذي نشرته صحيفة الواشنطن بوست عن هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق يقول: (انتقد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق فكرة الرئيس جورج بوش (الأب) عن النظام العالمي الجديد باعتبار أن تحقيقها مستحيل -وقال- لقد أعجبت كثيراً ببراعة وثبات الرئيس في بناء التحالف.
ولكن لا تتوافر إمكانية أن يحقق النظام العالمي الجديد، التوقعات المثالية التي عبر عنها الرئيس -يقول-: وأنا أشك في كون هذه التوقعات تعكس بدقة ما حدث في أزمة الخليج -وأضاف- أن صانعي السياسة الأمريكيين لابد أنهم أدركوا أن النظام العالمي الجديد لا يمكن بناؤه وفقاً لمواصفات أمريكية، وأمريكا لا تستطيع أن تغذي بالقسر إحساساً عالمياً بروح جماعية حيث لا يوجد هذا الإحساس.
والسيطرة الأمريكية لا يمكن أن تدوم -وقال- إنه لو تم غزو الكويت بعد سنتين من الآن؛ لكانت ميزانية الدفاع الأمريكية تقلصت إلى درجة تعيق نشر قواتها بكثافة فيما وراء البحار، والاقتصاد الأمريكي لا يستطيع إلى ما لا نهاية دعم سياسة هي في الأساس تدخل من جانب واحد) .
إذاً: صانعو السياسة الأمريكية أنفسهم يدركون أن هذا النظام الدولي الجديد لا يمكن أن يدوم لأنه تدخل من طرف واحد، ولأنه يحمل قدراً كبيراً من الصلف والتسلط والطغيان الأمريكي؛ الذي يريد أن يستبد بخيرات الشعوب، ويريد أن يكون مصدر القرارات واحداً في العالم هو البيت الأبيض وليس الأمم المتحدة، فإن الأمم المتحدة ما هي إلا دمية ولعبة بيد أمريكا، فإذا أرادت أن يكون القرار معيناً كان كما تريد هي وأذعن لها الآخرون؛ لذلك أصبح التبرم والتضايق والتململ حتى في الدول الكافرة من هذا الصلف والتسلط الأمريكي؛ لأنه نظام عالمي ولكنه بشري يقوم على أساس تميز الجنس الأمريكي، وأنه جنس ليس له مثيل ينبغي أن يذعن له العالم وأن يسلم له القيادة.