تعب السعداء يصحبه لذة وسرور، بخلاف الأشقياء

الفرق الثاني: أن تعب السعداء لأنه تعب في الطاعة يلقى السعداء في الدنيا العاجلة قبل الآجلة، يلقون في قلوبهم من السرور والنعيم -الناتج عن معاناة التعب في طاعة الله- يلقون ما يزيل عنهم هذا التعب، بل ما يحول تعبهم إلى لذة وسرور.

ولذلك الإنسان قد يقاسي قيام الليل -مثلاً- وخاصة في بداية توجهه لهذه العبادة، ويجد مشقة في هذا الأمر، ولكن بعد ما يتدرب على هذا الأمر ويعتاد؛ تألفه نفسه، حتى يصبح يجد من اللذة بالقيام ومواجهة البرد الشديد والوضوء بالماء البارد، ثم الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى، ومناجاته بالعبادة بالقرآن وبالذكر وبالدعاء، يجد من اللذة في ذلك ما لا يجده غيره من اللاهين واللاعبين والنائمين ومن أصناف الناس.

حتى إن بعض العلماء يقول: (إن لي ورداً بعد صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس -من القرآن والذكر ومناجاة الله عز وجل- لو لم أقم به ما استطعت أن أقوم بأعمالي في سائر يومي) .

فهو يجد لهذا الورد من الأثر المقوي لقلبه ولنفسه والدافع له ما يشعر بأنه لو تخلف عن ورده لسبب أو لآخر؛ لعجز عن القيام بأعماله الأخرى من أعمال العبادة والدعوة والعلم والتعليم، ومن أعماله الدنيوية التي لا بد له منها.

وكلكم تعرفون كلمة بعض العباد الذي كان يقول: [[لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف]] .

هذا -أيها الإخوة- ليس تمثيلاً ولا كلاماً يقال، بل هم شعروا من الأنس واللذة لمناجاة الله عز وجل ما جعلهم يحتقرون الدنيا، يحتقرون أهل الدنيا، يحتقرون ما عليه المشتغلون بالدنيا -مهما يكن في أيديهم من المال والسلطان والجاه والمنزلة والرئاسة وغيرها- لأنهم يشعرون أنهم في وادٍ، وهؤلاء القوم في وادٍ آخر.

فالسعداء يتعبون في العبادة فيجدون لذة العبادة عاجلاً غير آجل، وهذه اللذة التي يجدونها إنما هي عُرْبون للسعادة الأخروية التي وعدوا بها.

ولذلك وعد الله سبحانه وتعالى الذين آمنوا وعملوا الصالحات ذكراناً وإناثاً بأن يحييهم حياة طيبة، فقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] فهذا من الحياة الطيبة التي وُعِدَ بها المؤمنون.

أما الأشقياء والتعساء: فإنهم لا يجدون في قلوبهم نتيجة تعبهم إلا الشقاء والكبد والتعب! وقد يقول قائل: وما هو التعب الذي يلقاه هؤلاء الأشقياء في دنياهم؟ فأقول: إن هذا التعب كثير، ولكن خذ بعض الأمثلة من هذا التعب الذي يلقاه أولئك الأشقياء: الشقي يشعر -أولاً- بأن تعبه في معصية الله، فإذا انتهى من لذته أياً كانت هذه اللذة، وذهب شعوره بها، بقيت الحسرة في قلبه.

ولذلك كان الشاعر يقول وهو ينصح ابنه: إن أهنا عيشة قضيتها ذهبت لذتها والإثم حل فهو إذا كان ممن ينتسبون إلى الإسلام يشعر بأنه وقع في معصية، فإذا انتهى تلذذه بهذه المعصية بدأ قلبه يوبخه، وضميره يعاتبه، فشعر بالإثم وبالذنب العظيم، فأصابه نتيجة لذلك شيء غير قليل من الشقاء.

كذلك قد يترتب على هذه المعصية التي وقع فيها: مصائب دنيوية يصيبه الله عز وجل بها في نفسه أوفي أهله أو في ماله أو في غير ذلك، تجعل حياته كلها تنغيصاً.

تسمعون -مثلاً- عن الأمراض الجنسية الفتاكة التي انتشرت في العالم اليوم: كالهربس والإيدز وغيرهما.

وهذه الأمراض ليست جديدة، بل قد كان العالم يتحدث قبلها عن أمراض كثيرة، مثل: أمراض الزهري والسيلان وغيرها من الأمراض الجنسية التي تكلم عنها الأطباء.

فالإنسان حين ينتهي من هذه اللذة العابرة التي هي أسرع ما تزول، قد يصاب بمثل هذه الأمراض الفتاكة التي تفسد عليه حياته، وتهدم جسمه، وتهدم عمره، فينتهي أجله شر نهاية، وتقول له نفسه: (بينما الناس الصلحاء يقتلون شهداء في المعارك، في الذب عن دينهم أو عن أعراضهم أو عن أخلاقهم، أنت تموت شر ميتة في سبيل لذة عابرة) فيشعر بالخزي والعار نتيجة لذلك.

وقد يسلط الله تعالى عليه مصيبة في ماله، حيث يبذر هذا المال في أوجهه المحرمة، حتى ينتهي ماله الذي تعب في جمعه، ينتهي في هذا السبيل المحرم، فيصبح هذا الإنسان شقياً من وجهين: شقياً -أولاً- في جمع هذا المال، ثم شقياً -ثانياً- حين فرقه في معصية الله تعالى.

وقد يسلط الله تعالى عليه نتيجة معصيته فضيحة تلازمه إلى آخر الدهر، سمعت من بعض الثقات قصة حقيقية، يقول: إن رجلاً وامرأة قامت بينهما علاقات محرمة، ونكح هذا الرجل هذه المرأة نكاحاً محرماً، حتى حصل الحمل نتيجة لذلك، وخشيت هذه المرأة من الفضيحة، فصارت تداري هذا الأمر عن أقرب الناس إليها: عن أمها، وأبيها، وتخشى إن علموا بذلك أن يقتلوها وأن يحصل شيء لا تحمد عقباه.

فاحتارت ماذا تصنع، ولكنها كانت ذات حيلة، فكتمت الأمر عنهم، وفي يوم من الأيام كانت مع أبيها في سفر، وأبوها ربما يكون مغفلاً لا يدري من الأمر شيئاً، فلما نام أبوها شعرت بآلام المخاض وهي آلام شديدة، فتحيرت ماذا تصنع، والمرأة عادة في مثل هذه الحالة تحتاج إلى أن يكون بقربها نساء: أمها أو طبيبة أو غيرهن من النساء لكن الموقف يختلف بالنسبة لهذه المرأة، فذهبت من أبيها مكاناً قصياً حتى ولدت بعد جهد جهيد وبعد ما عانت من الآلام ما عانت، ثم واجهت بعد ذلك مصيبة أخرى بأي وجه تقابل أباها الذي تركته قبل دقائق دون أن يعلم بذهابها؟! كيف تقابله ومعها طفل صغير؟! هذا موقف صعب! ومن قبل كانت مريم البتول الطاهرة عليها الصلاة والسلام، وهي التي برأها الله عز وجل، وجعل لها آية بينة على قومها، مع ذلك واجهت صعوبة في مواجهة قومها بهذا الأمر، حتى كانت تقول: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] مع ما جعل الله عز وجل لها من الآيات البينات، وما وضع في قلبها من الروح والطمأنينة، ومع ما جعل في ابنها من المعجزات، التي منها: نطقه في المهد وإقامته الحجة على بني إسرائيل.

مع ذلك كله واجهت مريم عليها السلام ما واجهت، فقالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] فهذه المرأة لم تجد بداً من أن تقتل ابنها، وهو وإن كان ابناً غير شرعي لها إلا أنه ابنها الذي خرج من بطنها، والذي كان في رحمها تسعة أشهر، ولا بد أنها تحس نحوه بالحنان كما تحس أية أم نحو ابنها بالحنان.

ومع ذلك تخنقه بكلتا يديها والدموع تسيل من عينيها، ثم تحفر له في جذع الشجرة وتدفنه لئلا تفتضح جريمتها.

ويأبى الله عز وجل إلا أن ينكشف الغطاء، ويبين الأمر، ويعرف صاحبها الذي شاركها في هذا الفعل، وينكشف فعلها بابنها، وتبين آثار الجريمة أولها وآخرها.

فالصور والأشياء والنتائج التي يمكن أن تترتب على هذا التعب الذي تعبه الإنسان في المعصية كثيرة جداً.

ولذلك لا تتصور -أخي الشاب- وأنت تحرم نفسك من الأشياء المحرمة، تحرم نفسك من مشاهدة الأفلام الجنسية الهابطة، من مشاهدة المسلسلات المنحرفة، من النظر إلى النساء، من عقد الصداقات المحرمة، من السفر إلى بلاد الكفار، من تمتع العين والقلب برؤية الصور الجميلة، لا تظن وأنت تحرم نفسك من ذلك كله أنك في شقاء، وأن الذي أجاب داعي الشيطان، وأملى لنفسه في هذه الأمور في سعادة، لا تظنن ذلك، بل تأكد أنك تجد من لذة حرمان نفسك من هذه المعاصي، وشعورك بالترفع، وشعورك بأنك نجحت في المجاهدة، تجد في نفسك وفي قلبك من اللذة الشيء العظيم.

وذلك الإنسان الذي أتبع نفسه هواها في هذه الأمور يجد من الشقاء والتعاسة والألم وتوبيخ الضمير ما لا يخطر لك على بال.

حتى حدثني بعض من رأى هؤلاء الشباب، قال: والله لقد رأيت أحدهم وهو يجلس مع بعض النسوة، ثم يغادرهن إلى مكان آخر ليبكي بأعلى صوته، يبكي لأنه يجد في قلبه داعي الإيمان، ويجد في قلبه شعوراً بالخطيئة، فيتألم لذلك، وقد يسيطر عليه هذا الشعور، فيعبر عنه بالصراخ والبكاء، والأمر كما قال الشاعر: كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور جاء بالضرر فهذا الشيء الذي يسر العين -هو يضر القلب ويؤثر فيه، فهذا هو الفرق الثاني بين تعب السعداء وتعب الأشقياء: أن تعب السعداء يصحبه لذة وسرور في القلب، وأما تعب الأشقياء يصحبه ألم وتعاسة وشقاوة في القلب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015