الفرق الأول بين تعب هؤلاء وتعب أولئك: أن تعب السعداء: تعب في طاعة الله ومرضاته، فيحصل التاعب أو العابد فيه على الأجر والرضوان من الله تبارك وتعالى، فهو قربة وطاعة.
ولذلك لما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الكفارات في حديث معاذ وابن عمر وغيرهما، وفي أحاديث كثيرة جداً، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الكفارات التي يكفر بها عن الإنسان ما اقترفه من الذنوب والخطايا، ماذا ذكر صلى الله عليه وسلم في الكفارات؟ ما هي الكفارات؟ في أحاديث كثيرة، كما في حديث معاذ قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما خرج على أصحابه يوماً من الأيام لصلاة الفجر، وقد تأخروا جداً حتى كادت الشمس أن تطلع، فجاء فصلى بهم صلاة تَجَوَّز فيها -أي خففها- ثم التفت إلى أصحابه صلى الله عليه وسلم، فقال: {إنني بعد أن صليت -صلاة الليل- رقدت رقدة خفيفة، فرأيت ربي عز وجل في أحسن صورة؛ فقال لي: يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟} الملائكة في ماذا يختصمون؟ {قلت: الله تعالى أعلم! قال: فوضع الرب تبارك وتعالى يده بين كتفي حتى وجدت بردها في صدري؛ ثم قال لي: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فعلمت ما بين السماء والأرض، فقلت: يختصمون في الكفارات، والدرجات، والدعوات فقال: وماالكفارات؟ -تعرفون ماذا كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم -الكفارات هي نقل الأقدام إلى الجمعات -وفي رواية: إلى الجماعات أي إلى المساجد- وانتظار الصلاة بعد الصلاة -وفي لفظ: والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء على الكرهات} وهذا هو الشاهد: إسباغ الوضوء على الكرهات، وفي بعض ألفاظ الحديث: {وإسباغ الوضوء على الصبرات} فما هو المقصود بالكرهات؟ يحتمل أحد معنيين: المعنى الأول: إسباغ الوضوء في حالة حصول ما يكرهه الإنسان، من هم أو غم أو حزن أو مصيبة أو ما أشبه ذلك، ولذلك ورد الأمر لمن غضب أن يتوضأ.
فيكون المعنى: أن يتوضأ الإنسان ويفزع إلى الوضوء والصلاة إذا نابه أمر يكرهه، كما في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] .
والمعنى الثاني: -وهو الأقرب- أن يكون إسباغ الوضوء على الكرهات، يعني: أن يتوضأ الإنسان للصلوات حتى في حال شدة البرد.
ولذلك جاء في الرواية الأخرى (على الصبرات) والصبرات: هي جمع صبرة، وهي شدة البرد، فيكون المعنى أن إقدام الإنسان على الوضوء بالماء البارد في حال شدة البرد على الرغم من أن نفسه تكره هذا الأمر، إقباله على هذا الأمر طلباً لمرضاة الله هو من كفارات الذنوب.
ومثله: المشي إلى المساجد خاصة في الظلمات، وفي شدة البرد -أيضاً- ومثله: حبس النفس عن الخروج من المسجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة.
وحرمان الإنسان نفسه مما تحب من الاشتغال بأمور الدنيا ومجالسة الأصحاب والأهل والأولاد وغير ذلك مما تألفه النفوس.
فهذه الأشياء لما كان فيها مشقة على النفس وتعب وآلام، جعل الله عز وجل فيها كفارةً لذنوب الإنسان، وهذا هو الأمر الأول المتعلق بتعب السعداء، أن تعبهم لا يخلو من أحد حالين: إما تكفير معصية، أو رفع درجة.
ولذلك في الحديث الصحيح: {أن الإنسان إذا مشى إلى المسجد، كانت خطواته: إحداها تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة} فتعب السعداء هو: تكفير لذنوبهم ورفع لدرجاتهم.
أما تعب الأشقياء، فهو: على النقيض من ذلك هو تكثير لذنوبهم وخطاياهم ومزيد إثم لهم، ولذلك لما ذكر الله تعالى الكفار وما أعطوا من المال في هذه الدنيا، قال: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55] .
وفي الآية الأخرى -لما ذكر الإملاء لهم- قال: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178] .
وفرق بين إنسان يتعب في طاعة الله، وآخر يتعب في معصية الله، إنسان يتعب في فكاك نفسه، وآخر يتعب في رق نفسه وإيباقها، هذا هو الفرق الأول.