قصة شيخ الإسلام

أرأيت شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قال: (ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري! حيثما ذهبت فهي معي لا تفارقني، قتلي شهادة، وسجني خلوة، وإخراجي من بلدي سياحة) .

إذاً شيخ الإسلام رحمه الله لم تكن دعوته ولا تعليمه ولا تعلمه مرهوناً ببلد معين، يخشى أن يفارقه فينتهي أبداً! فهو إذا كان في الشام يعلم، وإذا ذهب إلى مصر عقد الحلقات، وجلس للناس يعلمهم أيضاً، ولا يرى في هذا ولا في ذاك حرجاً؛ فأرض الله واسعة، والمؤمن يسيح في أرض الله، ويقوم بواجبه فيها، ولم يكن رحمه الله يرى أن دعوته أو تعليمه أو تعلمه محصوراً بظرف أو حال معين، بل إن أسوأ ظرف تتوقعه وهو أن يكون في السجن، يعتقد هو أنه مجال للدعوة ومجال للتعليم وتدارك ما فاته! ولهذا أقبل رضي الله عنه في آخر عمره على قراءة القرآن الكريم، وأكب عليه -خاصة وهو في السجن-انكباباً عظيماً، حتى إنه ندم على بعض ما مضى من عمره، وتمنى أنه بادر وسارع إلى قراءة القرآن ودراسته، وعني به أكثر مما عني بغيره أول الأمر، فهذا دليل على أن هذه الخلوة التي حصلت له نفعه الله تعالى بها، وفتح عليه من ألوان الفتوح- خاصة في كتاب الله عز وجل - ما لم يكن له به علم من قبل.

بل إنه يعد حتى قتله محمدة؛ لأنه بالنسبة له شهادة في سبيل الله، يسعى المسلم إليها ويدعو الله أن يرزقه إياها، فكيف يفر منها! وفيها من الدعوة والتعليم ما ليس في الكلام؟! وربما إنسان تكلم كثيراً وكتب كثيراً، ولكن لم يكن لكلامه ولا لكتابته الوقع والأثر العظيم، فلما روى كتابته وكلامه بدمه، عرف الناس أنه صادق، وأنه لا يريد علواً في الأرض ولا فساداً، وأنه ليس متاجراً بالكلمة ولا مجرد مهرج يقول ليملأ الفراغ.

فصدَّقوا ما قال، وأعادوا النظر فيما كتب، واعتبروا به، وكتب الله تعالى له من التأثير ما لم يكن من قبل، فروى حروفه بدمائه! وكما قال أحد الكاتبين: (إن كلماتنا وأفكارنا تظل جثثا هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها ورويناها بالدماء انتعشت حية وعاشت بين الأحياء) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015