خذ مثالاً آخر وهو عكس هذا: المطاردون في الدنيا وهم كثير، هل يضيرهم ذلك شيئاً إذا كانوا في الآخرة من أهل الجنة وممن حصل على رضوان الله تبارك وتعالى؛ فأسلمه ذلك إلى جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر؟! لا! لا يضيرهم، بل يودون يوم القيامة أن أجسادهم قرضت بالمقاريض، يتمنون أن العذاب الذي أصابهم كان أشد وأنكى وأصعب وأوجع؛ لأن الأجر الذي أعطاهم الله تعالى إياه نظير صبرهم ورضاهم بذلك في ذات الله تعالى جعلهم يستعذبون في سبيل الله تعالى كل مُرٍ، ويَستحْلُون من أجل الله تعالى كلَّ علقم، فواحدهم يقول: ربي لك الحمد لا أحصي الجميل إذا نفذت يوماً شكاة القلب في كرب فلا تؤاخذ إذا زل اللسان فما شيء سوى الحمد في الضراء يجمل بي لك الحياة كما ترضى بشاشتها فيما تحب وإن باتت على غضب رضيت في حبك الأيام جائرة فعلقم الدهر إن أرضاك كالعذب شكراً لفضلك إذ حملت كاهلنا مما وثقت بنا ما كان من نوب فكل ما يلقاه المؤمنون في سبيل الله تعالى من أذى وسخرية وتكذيب، من تسلط وسجن، وتشريد، من طرد وحرمان ومضايقة، كله عذب لذيذ!! يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة وابن عمر: {بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ؛ فطوبى للغرباء!} الغرباء الذين يلقون من الناس السخرية والصد والتعذيب والتكذيب والسجن والإيذاء والاستغراب والإنكار، وألوان المضايقة، هؤلاء وعدهم المصطفى عليه السلام بطوبى، أي بالخير الكثير الطيب في الدنيا فهم يجدون في الدنيا، نعيماً في قلوبهم، ويتقلبون -ولو كانوا يتقلبون على جمر الغضا- على فرش الحرير والديباج في حقيقة الأمر؛ لأن قلوبهم تعيش في سعادة.
ومن مقدميهم وزعمائهم الكبار الإمام ابن تيمية رحمه الله، الذي كان ينتقل من سجن إلى سجن ومن بلاء إلى بلاء، وطالما أوذي وضرب، حتى ضايقه الناس مرة في مصر في الشوارع وكادوا يضربونه، وسجن مرات في مصر، وسجن في الشام، بل مات وهو في السجن!! ماذا كان يقول؟ ما قال: سئمت من هذه الحياة التي لا أمل فيها في انتصار، ولا أمل فيها بفرج، لا! قال لما أقبل على السجن: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] فالداخل إلى السجن في نظرهم أنه يدخل إلى الضيق والظلمة والحبس، هذا في نظر الناس عذاب، ولهذا قال باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب.
أما باطن السجن بالنسبة للشيخ وأمثاله فهو رحمة، فيه الأنس بذكر الله، والقرب من الله، والتفرغ لذكر الله وقراءة القرآن وطلب العلم النافع، وقال رحمه الله كلمته المشهورة: "ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري! حيثما ذهبت فهي معي لا تفارقني، سجني خلوة، وإخراجي من بلدي سياحة، وقتلي في سبيل الله تعالى شهادة" إذاً، المقياس ليس دنيوياً محضاً وليس مادياً بحتاً، بل المشردون المطرودون لا يضيرهم ذلك إذا كانوا من أولياء الله ومن أهل الجنة.