مثال ثالث: نعيم الدنيا لغير المؤمنين هل تعتقد أنه صفا لهم؟! هل تعتقد أن هذا الذي يتقلب على ألوان النعيم في الدنيا وهو غير مؤمن هل تظن أن نعيم الدنيا صفا له؟! لا! إن أشباح الموت تطارده، ولهذا فهو كل فترة يذهب إلى كشف طبي من ألوان الكشوف، ومع ذلك مخاوف الموت تطارده، فإذا أحس بصداع في رأسه؛ قال: ها! ربما يكون هذا سرطاناً في المخ! وإذا أحس بأشياء في جسده؛ قال: قد يكون هذا مرض الإيدز! لأنه يعرف حقيقة حساباته، ويعرف ماذا يصنع، ويعرف أنه قد تعرض لسخط الله، وقد ارتكب ألوان الموبقات والجرائم.
فتجد أن شبح الموت يطاردهم وينغص عليهم عيشتهم، كما قال بعض السلف: [[فضح الموت الدنيا، فلم يُبْقِ لذي عقل فيها نظراً]] فهو سر سلّطه الله تعالى على العباد عامة وعلى المترفين والمتكبرين خاصة، فهو يتسلل إليهم بهدوء حتى وهم في أقصى قصورهم، وفي خواص غرفهم، ودون أن يطلب إذناً من الحجاب ولا من الجنود، ودون أن يملك أحد إزاءه رداً ولا حجباً ولا تأخيراً ولا صرفاً ولا عدلاً، فيتسلل ويقطف أرواحهم، ثم يغادرهم وقد تركهم جثثاً هامدة لا حراك بها، كما ترك الفرعون من قبل، يقول الله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] .
إذاً حتى نعيم الدنيا لا يصفو لغير المؤمنين، أما المؤمن فمهما يكن مقتصراً في هذه الدنيا فهو يشعر بلذة في الدنيا عاجلة فضلاً عن لذة الآخرة، ولهذا كان بعض الصالحين يقول: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة" وهذا يشمل جنة التعبد، جنة الإقبال على الله تعالى والأنس بذكره، لكن أيضاً من ضمن ذلك أنه حتى نعيم الدنيا من الأكل والشرب، ونعيم السكن الطيب، ونعيم الزوجة لا يتمتع به على حقيقته إلا الخيرون، ولهذا والله! ذهب الأخيار بخير الدنيا والآخرة! لماذا؟ لأن الموت لا يشكل بالنسبة لهم قضية خطيرة! لماذا؟ لأن الواحد منهم يجعل الموت نصب عينه، فيستعد له، هذا من جانب.
ومن جانب آخر؛ فإن الواحد منهم يقول: الحمد لله! أنا -إن شاء الله- معي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنا محافظ على الصلوات الخمس، وأنا -إن شاء الله- إن ذهبت إلى الدار الآخرة، فإنني أقدم على ربٍ رحيم كريم أرجو رحمته وأخشى عذابه، فيكون في قلبه اطمئنان، لا يكون الموت بالنسبة له شبحاً رهيباً مرعباً، وإن كان الإنسان من طبيعته أنه يكره الموت، كما في الصحيح من حديث عائشة وأبي هريرة: فكلنا يكره الموت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله فرح بذلك، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، أما الكافر فإنه يبشر بسخط الله، فيكره لقاء الله ويكره الله تعالى لقاءه} فحتى إن أردت بالمقياس الدنيوي فنعيم الدنيا لا يصفو لأهل الدنيا أبداً؛ إنما يصفو للصالحين البررة الأخيار الأطهار.