عندما كانت الدنيا ليست هي المقياس تعبد الله تعالى جنده وأولياءه بألوان من الإعراض عن الحياة الدنيا كالصيام مثلاً، حيث يمسك الإنسان عن الصيام طيلة النهار، وهو لا يقبض مقابل ذلك في الدنيا شيئا البتة، وقد تكون الظروف في كثير من الأحيان تتيح للإنسان ألا يصوم -لو أراد ألا يصوم- دون أن يلقى على ذلك جزاء في الدنيا أيضا، ولكنه يترك الطعام والشراب وهو في متناول يده ابتغاء ما عند الله تعالى، لأنه يؤمن بأنه توجد دار آخره ينبغي أن يستعد لها، كما يستعد ليومه وغده.
ومثله الإحرام سواء بسواء! فإن المحرم يمتنع مثلاً عن ألوان من الزينة كالتطيب وإزالة الشعر وقص الأظافر ولبس المخيط، وغير ذلك من ألوان الترفّه التي يمتنع عنها المحرم، ومن ذلك أيضاً النكاح: عقد النكاح، والجماع ومقدماته، يمتنع عن ذلك كله؛ لأنه يؤمن أن هناك داراً آخرة تتطلب أن يستعد لها الإنسان كما يستعد ليومه ولغده في هذه الدنيا سواء بسواء.
ومثله أيضاً الزهد وهو أمر تعبد الله تعالى به عباده أن يزهدوا في فضول المباحات التي لا يحتاجون إليها في الدنيا ولا تنفعهم في الدار الآخرة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سيد الزهاد يقول: {مالي وللدنيا؟! ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم قام وتركها!} .
فهذا درس آخر وفائدة ينتفع بها المؤمن: إن الدنيا ليست هي المقياس في كل أمر، بل المقياس هو الآخرة: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64] والكلام في هذا الموضوع يطول لكن المقصود الإشارة فحسب، وإلا فيكفيك أن تعلم أن الآخرة سرمد لا نهاية لها، وأن الدنيا مداها الزوال والفناء، وهب أن الإنسان عاش ما عاش كما قال الشاعر: إذا كان الشتاء فأدفئوني فإن الشيخ يهرمه الشتاء إذا بلغ الفتى ستين عاماً فقد ذهب المسرة والهناء هب أنك عشت مائتي عام، فكان ماذا؟ موسى عليه الصلاة والسلام جاءه ملك الموت عند الموت فلطمه، فرجع ملك الموت إلى ربه، فقال: يا رب بعثتني إلى عبدٍ من عبادك لا يريد الموت، فرد الله تعالى إليه عينه، وقال له: اذهب إلى موسى فقل له: ضع يدك على متن ثور، فإن لك بكل ما غطت يدك: بكل شعرة سنة، فذهب ملك الموت إلى موسى وقال له ذلك، فقال: ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، فما دام أنه لا بد من الموت فالآن، ثم دعا الله تعالى أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر والحديث في صحيح البخاري.
وإذا لم يكن من الموت بُدٌّ فمن العارِ أن تكون جباناً الشجاع يموت بأجله، والجبان يأتيه حتفه ولو كان في أقصى غرفة من بيته، فلا الشجاعة تقلل الأجل، ولا الجبن يؤخره، ولا كون الإنسان يضحي في سبيل الله تعالى ويبذل ما يبذل؛ لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق.