القنوط من رحمة الله

المعلم الخامس والوقفة الخامسة: ألاَّ يؤدي به الأمر إلى القنوط من رحمة الله تبارك وتعالى واليأس منه، فإن القنوط كفر، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] وقال: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] وهذا من أعظم أضرار المعصية، أن المعصية قد توقعك في القنوط من رحمة الله تعالى، فتجرك إلى أمر أعظم منها وهو القنوط من رحمة الله ­تبارك وتعالى، والقنوط كثيراً ما يتسرب إلى أذهان العصاة.

اتصل بي يوماً من الأيام أحد الشباب وهو يبكي، ويقول: عندي معصية أقع فيها ثم أتوب، فعرفت ماذا يعني بهذه المعصية، وهي من معاصي الشهوات، فربما أنه يستخدم ما يسمونه بالعادة السرية، فقال: إن الأمر تطور عندي، قلت: كيف؟ قال أصبحْتُ مع كثرة وقوعي في هذا الأمر ثم توبتي، ثم وقوعي، أصبح عندي يأس، حتى إني إذا فعلت ذلك لا أغتسلُ من الجنابة، من شدة حقدي على نفسي، وبغضي لها، ومقتي لها -لاحظ كيف جاء القنوط إلى النفس- يقول: ثم إذا لم أغتسل قلت: كيف أصلي؟! لا داعي لأن أصلى وأنا على غير طهارة، قال: فصرت أترك الصلوات والعياذ بالله وأنا في قلبي حرارة، وفي قلبي يقظة، وفي قلبي بعض الإيمان، وحزن عظيم، لكن الأمر تعدى به إلى الطرف الآخر، فصار عنده قنوط أدى به والعياذ بالله إلى الانهماك في معاصٍ أخرى لا تقاس بالمعصية الأولى التي وقع فيها.

فالذي يدفع القنوط عن الإنسان أشياء: أولها: أن يدرك أن القنوط ذنب أعظم من الذنب الأول، فإن القنوط كفر وضلال، وهو أعظم من الذنب الذي وقعت فيه، فإذا وقع الإنسان في حرام فإن هذا الحرام أهون من القنوط من رحمة الله، فإن قنطت، معناه انتقلت من معصية إلى كفر، فإذا عرفت أن القنوط كفر وضلال؛ فإنك حينئذ تثق بالله تعالى، ولا تقنط من رحمته.

الثاني: مما يدفع القنوط عن العبد: معرفته بسعة رحمة الله تبارك وتعالى، فإن الإنسان لو عرف سعة رحمه الله تبارك وتعالى ما قنط من رحمته أحد، ولطمع في رحمته كل أحد، حتى الكفار لو علموا بسعة رحمة الله لطمعوا في رحمته، حتى الشيطان عندما يرى كثرة الرحمة يوم القيامة يتخيل أنه يمكن أن تدركه، وهيهات هيهات أن تدرك الرحمة كافراً مات على الكفر، كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي: {إني حرمت الجنة على الكافرين} كما في صحيح البخاري، لكن المقصود أن الإنسان القانط هو جاهل بالله تعالى، لم يعرف حقيقة أسماء الله تعالى وصفاته، فإن الله تعالى واسع المغفرة، يقول كما في الحديث القدسي: {يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لغفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة} ذلك أن الله تعالى عفو غفور رحيم، يحب العفو ويتجاوز عن عباده.

وفي الصحيحين {أن رجلاً من بني إسرائيل كان مسرفاً على نفسه، فلما حضرته الوفاة قال لأولاده: أي أب كنت لكم؟! قالوا: نِعْمَ الأب كنت لنا، قال: فإني لم أعمل خيراً قط، وليس لي عند الله من خلاق، فإذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم انظروا يوماً شديد الهواء فَذُّرُّونِي فيه، والله لإن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات فعلوا به كما أوصى، فأمر الله تعالى هذا الإنسان فاستوى خلقاً بشراً سوياً، جمع الله بأمره وحكمته، وقدرته هذا الإنسان من البر والبحر وأجواف الحيتان والطيور وغيرها فاستوى، فقال: يا عبدي ما حملك على ما فعلت، ما حملك على ذلك، كونك تطلب من أولادك أن يحرقوك ويسحقوك ويَذَّرُّوك في يوم شديد الريح، قال: مخافتك يا رب، فغفر الله تبارك وتعالى له} إن ربك واسع المغفرة، ولو أردت أن أذهب بعيداً في النصوص الشرعية قرآناً وسنة في سعة رحمة الله تعالى لطال المقام، وإن كان العبد لا ينبغي أن ينساق فقط مع هذه النصوص، بل يمسك الميزان من الوسط، كما قال الله عز وجل: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50] .

إذاً لا تحفظ الأولى، وتنسى الثانية، إن ربك سريع الحساب، وإنه لغفور رحيم، فالله تعالى غفور رحيم، وهو تعالى شديد العقاب، فضع هذا أمامك، وهذا أمامك، فإذا رأيت أنك مقبل على المعاصي ومندفع ومسرع، ضع لوحة مكتوباً فيها (شديد العقاب) حتى تكون هذه اللوحة عبارة عن (فرامل) وضوابط تمنع الإنسان، فإذا رأيت أنك مقلع عن المعصية، وفي قلبك يأس وقنوط وتخشى أن يتسرب إليك ذلك، فضع أمامك لوحة مكتوباً بها (إن ربك واسع المغفرة) حتى تنجر إلى الله تعالى، وتؤمن به، وتدعوه، وتثق بسعة رحمته تبارك وتعالى.

ولذلك يقول بعض الشعراء القدماء وقد أسرف على نفسه وأصاب في هذا البيت، يقول: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم ربي دعوت كما أمرت تضرعاً فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم وعندنا شاعر نبطي مشهور شعبي، له قصيدة إيمانية قوية من ضمنها يخاطب ربه جل وعلا ويقول: لو كان ذنبي راجح بالجبال عفوك عظيم ليس ذنبي عديله لاحظ الفقه يقول: الآن ذنبي عظيم فعلاً، لكن عظم ذنبي لا يمكن أن يقاس برحمتك وعفوك، لا يمكن أن نضع هذا في كفة وهذا في كفة، لا يعادل هذا بهذا، كيف يعادل فعل العبد بفعل الرب جل وعلا، وهذا صحيح، فمهما تبلغ ذنوب العبد فإن الله تعالى ما دام لقيه عبده بالتوحيد، فإن الله تبارك وتعالى يغفر له على ما كان منه ولا يبالي، بالشروط المعروفة.

والأمر الثالث الذي يمنع العبد من الوقوع في هوة القنوط هو: أن يتذكر كثرة المكفرات، فإن الله تعالى جعل للذنوب مكفرات كثيرة: منها الأعمال الصالحة، ومنها الابتلاء بالأمراض، وتضييق الرزق، ومنها الاستغفار، ومنها تشديد سكرات الموت عليه عند الموت، ومنها مكفرات كثيرة جداً، ومنها الأعمال الصالحة، فهذه الأشياء إذا فعلها العبد فإنها تكون سبباً في تكفير ذنوبه وغفرانها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015