ومن حكم الله تعالى في خَلْقِ المعصية: تحقيق الذل والانكسار للعبد، فإن العبد لو أتى الله تعالى بأعمال الثقلين من الطاعات والقربات، فإنه لا يمكن أن يدخل على الله تعالى إلا من باب الذل والانكسار، لذلك قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله-: ومن أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية.
أنت لا تدخل على الله لأنك تقول: والله لقد أتيت -الآن- بما أستحق به الجنة! لا.
ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذِّبوا فبعد له أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع فأنت لا تدخل الجنة؛ لأنك صليت الصلوات الخمس، ولا لأنك صمت رمضان، أو حججت البيت الحرام، أو تصدقت أو فعلت، ووالله الذي لا إله غيره لو قضيت حياتك من يوم عقلت، إلى أن تموت راكعاً ساجداً قائماً، ذاكراً لله عز وجل ما كنت مستحقاً للجنة بذلك، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل} .
إذاً لا تدخل الجنة بأعمالك، إنما تدخلها برحمة الله تعالى، وأعظم ما يتأهل به العبد لرحمة الله تعالى والجنة، هو مقام الذل والانكسار بين يدي الله تعالى.
ولذلك قد يتحقق -أحياناً- للعاصي من الذل والانكسار الشيء العظيم، حتى إن العاصي إذا كان في قلبه شيء من الحياة، ينظر في نعم الله تعالى، فيقول: أنا الآن أبارز الله بالمعاصي، نَفَسِي يتردد بإذن الله تعالى، ورزقي من فضل الله تعالى، ومعيشتي الهنيئة من الله تعالى ووظيفتي من الله تعالى وتوفيقي من الله تعالى وكل ما عندي من الله، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] وأنا والله لست أهلاً لشيء من ذلك، فينظر في نفسه فيهضمها ويعرف قدرها، ويدرك عظيم نعمة الله تبارك وتعالى عليه، فيقع له من ذلك شيء عظيم، حتى يكون شأنه مثل شأن شاب نشأ في حجر والده مدللاً يغذيه أبوه بأطيب النعم في الصباح والمساء، ولديه سيارة فخمة، وملابس جميلة، وخدمات متكاملة، وهذا الشاب لو أستطاع أبوه أن لا يهبَّ عليه النسيم والهواء لفعل، فيومٌ من الأيام خرج هذا الشاب فلقيه أعداء فأمسكوا به وقبضوا عليه، وسجنوه، ووضعوه في الحديد، وأصبحوا يضربونه، ويعطونه بدلاً من الطعام الذي كان يغذى به الضرب بالسياط، فيضربونه بالسياط صباحاً ومساء، ولا يزالون يوقدون تحته من جحيم الأذى والتعذيب والاضطهاد، حتى إن هذا الشاب إذا تذكر الأيام التي قضاها في كنف والده هطلت دموعه، وسالت وبكى، وقال: رحمة الله عليك يا أبي، أين أنت حتى ترى ما أنا فيه الآن، بعد أن أخذني العدو واختطفني من بين يديك؟! رحمة الله عليك يا أبي، ونظر الشاب وهو يتأمل ما كان عليه في عهد والده، وما صار إليه الآن وهو في قبضة عدوه، فإذا بأبيه يُقْبِلُ من بعيد، وما زال حتى رآه وتحقق أنه والده، فإذا بهذا الشاب يقوم سريعاً وهو يصرخ وينتحب ويبكي، ويلقى بنفسه بين يدي والده، ويقول له: يا أبت كيف لو رأيت ما صنعوا بي؟! كيف تبدل سروري هماً، كيف تبدل نعيمي عذاباً؟! كيف لو رأيت يا أبي ما فعلوا بي؟! ويبكى حينئذ ويشهق، ويضم والده إليه.
هل تتوقعون أن والده -وهو الذي يحبه- سوف يركله برجله ويتخلى عنه، ويقول: لا شأن لي بك، كلا، بل إنَّ والده سوف يمسك به، ويحفظه ولا يدعه لعدوه بحال من الأحوال، ولله المثل الأعلى، فكذلك العبد إذا انكسر بين يدي الله، وانطرح، وعفر وجهه بالتراب، ودمع لله عز وجل، وذل وافتقر، فإنه يدخل على الله تبارك وتعالى من أوسع الأبواب.
ولذلك يقول بعضهم: أنين المذنبين، خير من زجل المسبحين.
وهذا الكلام ليس صحيحاً على الإطلاق، وهو ينسب إلى بعض الصوفية، يقولون: (أنين المذنبين خير من زجل المسبحين) يعني: بكاء العاصي وهو يتوب، ويندم ويحزن، وهو ساجد لله تعالى، خير من تسبيح المسبحين، فهذا ليس صحيحاً، لكنه -أحياناً- يكون صحيحاً، ومتى يكون صحيحاً؟ يكون صحيحاً إذا كان المسبح معجباً بعمله، وفخوراً بطاعته، فيقول: والله أنا فعلت وفعلت، أنا ولله الحمد البارحة صليت كذا ركعة، وصليت الفجر مع الجماعة، ولم يدخل أحد المسجد قبلي، وبعد الفجر في المسجد حتى تطلع الشمس، ثم ذهبت إلى حلقة علم، أنا ولله الحمد كامل، أنا سمعت واحداً يقول: أنا كامل فماذا عليَّ من العيوب؟.
أحدهم زاره رجل وهو طريح الفراش في المستشفى، فقال: يا فلان طهور، تكفير ذنوب إن شاء الله، قال: تكفير ذنوب، هل أنا مذنب حتى تكفر ذنوبي؟! والعياذ بالله فالإنسان إذا كان صاحب طاعات، ولكنه يمنّ على الله بطاعته، ويرى أنه فعل شيئاً، فهذه الطاعات قد تكون وبالاً عليه، والعاصي الذي ينكسر بين يدي الله بمعصيته خير من المطيع الذي يعجب بعمله ويدل على الله تبارك وتعالى بعمله.