تحقيق الرحمة بالعصاة

ومن أعظم حكم الله تعالى في خلق المعصية: تحقيق الرحمة بالعصاة، فأنتم تجدون، ونجد هذا في نفوسنا، أن الإنسان إذا كان مستقيماً وظل أشهراً على حاله من الاستقامة والطاعة والإخبات لله جل وعلا، وهو كما يقع في رمضان في النهار صائم وفي الليل قائم ومن قراءة القرآن إلى تسبيح إلى صدقة إلى عمرة، فيكون له إشراق وإيمان وقرب من الله تعالى، فإذا رأى العاصي فإنه ينفر منه، ويبغضه، ويمقته، ويقسو عليه، حتى إن من الناس من يدعو على العصاة بأن الله تعالى يهلكهم، ويأخذهم، ويبتليهم، وهكذا يقسو عليهم ويشتد، حتى إنه لو استطاع أن يقتلهم لقتلهم؛ ليحول بينهم وبين المعصية، فإذا كتب الله تعالى أن يقع العبد في شيء من معصية الله تعالى، أدركه ذل المعصية، وأدركه من الله تعالى روح، فأدرك أن هؤلاء الذين وقعوا في المعصية أحوج إلى الرحمة في بداية الأمر منهم إلى القسوة، مع أن هذا لا يمنعه من أن يقيم حدود الله تعالى عليهم، فإن كانوا قد وقعوا فيما حرم الله واستحقوا عقاباً أو تعزيراً أو حداً أو توبيخاً فعل، ولكنه مع ذلك يفعل بروح الذي يرحمهم، ويخصص لهم من وقته ما يدعوهم به إلى الله تعالى، ويتمنى لهم الشفاء العاجل، وبدلاً من أن يدعو عليهم أصبح يدعو لهم بالهداية، ويدعو لهم بالصلاح، ويدعو لهم بأن يوفقهم الله تعالى للإقلاع عما هم فيه من المعاصي، فينتقل من القسوة والغلظة إلى مقام الرحمة والشفقة على هؤلاء، والحرص على إنقاذهم مما هم فيه، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم مع ما لقي من المشركين، حتى إنهم أخرجوه من مكة بلده، وحاربوه وطردوه، حتى إن أبا سفيان لما أسلم، ألقى قصيدة أمام النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها: لعمرك إني يوم أحمل راية لتغلب خيل اللات خيل محمد لكالمدلج الحيران أظلم ليله فهذا أواني حين أهدى فأهتدي هداني هاد غير نفسي ودلني على الله من طرّدته كل مطرد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {نعم أنت طردتني كل مطرد} أخرجوه من بلده صلى الله عليه وسلم، وشجوا وجهه، وكسروا رباعيته، وأدخلوا حلق المغفر في وجنتيه الطاهرتين عليه الصلاة والسلام، فقال: {كيف يفلح قوم شجوا نبيهم} وسقط عليه الصلاة والسلام في الحفرة، ومع هذا كله عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيح عن ابن مسعود قال: {كأني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه} الله أكبر! وهو يمسح الدم عن وجهه، هل يقول اللهم العنهم اللهم اخذلهم؟! لا! يمسح الدم عن وجهه ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} كالمعتذر لهم، لا يريد أن يعاجلهم الله تعالى بالعقوبة، لعل الله أن يتوب عليهم، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عائشة لما أخرجوه إلى الطائف حاربوه حتى خرج إلى الطائف فذهب إلى الطائف فلقَّوه شر لقاء، حتى قال قائل منهم: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟! وقال آخر: إذا كنت أنت صادق فأنا أمزق ثياب الكعبة، وهكذا ردوه شر رد، وأساءوا إليه، ثم أغروا به غلمانهم وصبيانهم وسفهاءهم يلحقون به في الشارع، ويضربونه بالحجارة، حتى أدموا عقبيه الطاهرتين صلى الله عليه وسلم.

فما وجد أحداً ينصره من البشر، وما وجد أحداً يأويه، حتى أوى عليه الصلاة والسلام إلى حائط، ثم رجع أدراجه إلى مكة يائساً منهم، وحينئذ أظلته غمامة، وكان صلى الله عليه وسلم في شبه غيبوبة من الحزن الذي لحقه؛ لأنه أصابه همٌ عظيم.

دعوة الله ودعوة السماء ورسالة الحق تُرَدُّ هذا الرد السيئ؟! وأصابه عليه الصلاة والسلام من ذلك غم شديد، قال عليه الصلاة والسلام: {فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب وإذا سحابة قد أظلتني فنزل منها ملكان، وإذا بجبريل فسلم عليَّ وقال: يا محمد، هذا مَلَك الجبال، فسلم عليه ملك الجبال، وقال: يا محمد، إن الله تعالى سمع قول قومك لك وما ردوا عليك فمرني بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -وهما جبلان بمكة-؛ -لأن أهل مكة هم السبب في كل ما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم- إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، -أي: تذهب مكة في خبر كان هي ومن فيها-، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم -وقد استأنى بهم- بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئا} الله أكبر! الله أكبر! {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] .

فالمهم: أن العبد يدرك بمعصيته الرحمة للعصاة، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأضرابه من الأنبياء والمرسلين، فلم يكونوا بحاجة إلى أن يذوقوا المعصية حتى يرحموا العصاة، ويدعوا الله تعالى لهم بالتوبة، وأن يغفر الله تعالى لهم، ويوفقهم للإقلاع عنها، فلم يكونوا بحاجة إلى ذلك، أما سائر البشر فإن كثيراً من الناس إذا غلب عليه التعبد والصلاح والتقوى والورع، ربما جفا في حق العصاة، حتى إنك تجد اليوم من الناس من يشتد على العصاة إلى حد أنه يخرجهم من الملة والعياذ بالله وقد رأيت بعيني، وسمعت بأذني، من غلاة الناس من يكفر أهل المعاصي بمعاصيهم، وهذا الإنسان الذي يكفر بالمعصية، مثلاً يكفر الزاني فهذا الإنسان لو كُتِبَ عليه بسبب ضعفه وجبلته وتسلط الشيطان عليه والهوى وانتشار الفواحش، لو كتب عليه أن ينظر نظرة حرام، أو يخاطب امرأة بكلمة حرام، أو يُقَبِّلْ أو يقع فيما هو فوق ذلك، لربما أعاد حساباته السابقة، وأعرض عما كان يقوله في شأن كفر أهل المعاصي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015