إظهار الإيمان وتقوية شواهده

ومن أعظم حكم خلق المعصية: إظهار حقيقة الإيمان وتقوية شواهده للمؤمنين والصادقين، وذلك حين يرون آثار الطاعة والمعصية في حياتهم، فإن الله عز وجل ذكر في كتابه، بل وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث أثر الطاعة وأثر المعصية، أثر الطاعة على الأفراد وعلى الجماعات وعلى الأمم في استقامة أحوالها، سواء فيما يتعلق بقلوبهم وسعادتهم واطمئنانهم وروحهم وإيمانهم، أم فيما يتعلق برزقهم وسعة ما يعطيهم الله تعالى من المأكل والمشرب والمطاعم والملاذ، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن:16] وبالمقابل قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] .

قال بعض السلف: المعيشة الضنك هي عذاب القبر، والواقع أن المعيشة الضنك هي أوسع من هذا كله، فالمعيشة الضنك في الدنيا بضيق الصدر والهم والحزن والقلق الذي يخيم على قلب العاصي، حتى كأن الدنيا في عينه أضيق من ثقب إبرة، ولو أجلبت وراءه الشُّرَط والأعوان، والأنصار، والأموال، والدنيا، والمواكب، فإن هذا الإنسان يعيش قلبه في ضيق لا يعلمه إلا الله، كما قال الإمام الحسن البصري -رحمه الله- وقد مر به موكب من بعض العصاة قال: [[إنهم وإن هَمْلَجَتْ بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين، إلا أن ذل المعصية في رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه]] .

ولذلك إذا رأيت العاصي رأيت في نفسه من الذل والصغار، مصداق ما أخبره به النبي صلى الله عليه وسلم حين قال في الحديث الذي رواه أصحاب السنن وأحمد بسند جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وجُعل الذلة والصغار علىمن خالف أمري} وبالمقابل إذا رأيت المطيع رأيت فيه من العزة والقوة والمنطق والإيمان والثقة والثبات، ما يليق بموقعه عبداً مطيعاً مخبتاً لله جل وعلا.

والمقصود أن من حِكَم خلق المعصية أن يرى الناس بأعينهم مصداق هذا، فإن عصى الإنسان ربه وجد أن أثر المعصية في نفسه، وفي ولده، وفي زوجته، وفي ماله، وفي خدمه، وفي عبيده، وفي سيارته، وفي كل شيء، حتى قال بعض السلف: والله إني لأعصى الله عز وجل فأرى أثر ذلك في خُلُقِ زوجتي، وفي سير دابتي، فإن عصى الله تعالى أصبح ينظر أين عقوبة هذه المعصية؟!! فيجد اليوم زوجته قد أساءت معاملته، وتكلمت عليه بكلام قاس، وبكلام شديد، وأغلظت له، ولم تجهز له الطعام كما ينبغي، وما حققت له ما يريد، ودخل عليها يريد أن يرى الابتسامة التي تعوَّد عليها، ويرى الصدر المنشرح، ويرى الكلمة الطيبة، فوجد الاكفهرار، والتقطيب، والإعراض، ما هو السبب؟ السبب: تعلمه أنت، وهي لا تعلمه، لكن العبد مسير في هذه الأمور، فالله عز وجل أظهر أثر المعصية في خلق زوجتك، وفي دابتك، وفي سيارتك، وفي رزقك.

كم من إنسان يذهب يطلب الرزق؟ اليوم أسس شركة، فيجد بعد فترة أن الشركة قد انهارت ولا بد من التصفية، فذهب يحاول أن يشتغل بالزراعة، فكانت النتيجة واحدة، وذهب في طريق ثالث، ورابع، وخامس، فوجد أن الأبواب كلها مغلقة أمامه، فنقول له: ارجع حاسب نفسك، وانظر فإن البلاء في نفسك، والبلاء في داخلك!.

وهذه ليست قاعدة مطردة، فأنت قد تجد كافراً موسعاً له في الرزق، لكن هذه القاعدة إنما تصدق في شأن من أراد الله به خيراً، فإن الله تعالى يرسل له النذر، والتعليمات، والتوجيهات، والتنبيهات، أما الإنسان الذي لا يحبه الله فلا يبالي به في أي واد هلك، فإن الله تعالى يمد له من الدنيا مدا، وكلما زاد في المعصية ربما زاد الله له في الرزق، ووسَّع عليه وأعطاه حتى يقبضه الله عز وجل وهو أكفر ما كان، وأعصى ما كان، وأقسى ما كان، كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55] فيمد الله تعالى لهم في الدنيا مدا، حتى يلقوا الله تعالى بآثامهم وذنوبهم كاملة موفورة، فيأخذهم بها أخذ عزيز مقتدر.

فإن رأى العبد أثر المعصية في نفسه وفي مجتمعه، وفي أسرته، وفيمن حوله، أدرك صدق ما جاءت به الرسل، وأن الأمر حق لا مرية فيه، وهذا لا يحدث إلا لمن في قلبه بعض الحياة، وإلا فإن الإنسان الذي قلبه قد مات والعياذ بالله فإنه يفسر الأمور تفسيراً مادياً؛ لأنه لا يؤمن بما وراء الأحداث المشهودة من قدر الله وإرادته وتدبيره، فإذا رأى في الأمور الدنيوية تعكيراً أو تأخيراً فسره تفسيراً معيناً، فيقول: والله هذا الأمر بسبب سوء الحسابات، وعطل السيارة وبسبب كذا وكذا، وخلق الزوجة بسبب كذا، وهكذا يفسر الأمور تفسيراً مادياً قريباً، ويغفل عما وراء الأحداث، ونحن لا ننكر الأسباب، ولكن وراء الأسباب أسباب، ووراء الأسباب مسبب الأسباب وخالقها جل وعلا والمؤمن يدرك هذه المعاني ويلحظها، أما الغافل فإنه يمضي قدماً لا يلوي على شيء حتى يهلك في قبره.

انظر مثلاً إلى ما ذكره بعض الصالحين، ذكر الإمام المنذري في الترغيب والترهيب قصة عن الإمام البيهقي أن رجلاً جاء إلى عبد الله بن المبارك -رضى الله عنه وأرضاه- وقال له: يا أبا عبد الرحمن إن في ركبتي قرحه قد نبتت منذ سبع سنين، وقد عرضتها على جميع الأطباء، وذهبت وجئت وعالجت، وما تركت أحداً إلا أتيته، فما نفع ذلك ولا أجد شيئاً فماذا ترى لي يا أبا عبد الرحمن بارك الله فيك؟ قال له عبد الله بن المبارك: اذهب إلى مكان يحتاج الماء فاحفر فيه بئراً وسبلها للناس، فإن شاء الله تعالى كلما خرج الماء وانتفع به الناس نقص هذا الدم الذي يخرج من ركبتك وشفاك الله تعالى، ففعل هذا الرجل، فما هي إلا أزمنة يسيرة حتى شفاه الله تعالى.

هذه القصة في ميزان الطب، حين تأتي للطب كعلم محدث فليست عنده خانة معينة لهذا الأمر، لكن في مجال الأمور الشرعية والمشاهدات الحسية، فإن هذا الأمر يرى عياناً لا شك فيه ولا تردد، ولسنا في حاجة إلى قصة حصلت في عهد عبد الله بن المبارك، أو قصة أخرى، أو ثالثة، أو رابعة، أو عاشرة، فإن كل امرئ منا يرى في حياته من مثل هذه القصة الأشياء الكثيرة، حتى العلم الحديث بدأ يحاول أن يفسر هذه الأمور ويجد لها موقعاً صحيحاً، لأنها حقائق لا تقبل الجدل والخلاف حولها.

ومثل هذه القصة التي تدل على أثر الطاعة في صحة الإنسان واستقامة حاله، وشفائه مما يعانى من أمراض، ما ذكره البيهقي، عن الشيخ أبا عبد الله الحاكم، وهو شيخ البيهقي، وهو صاحب المستدرك أنه نبت في وجهه قروح وجروح أيضاً، وعرض نفسه على الأطباء فما نفع ذلك شيئاً، فجاء إلى الإمام أبي عثمان الصابوني وهو من أئمة أهل السنة والجماعة وهو في مجلسه يوم الجمعة، وفي مجلسه خلق كثير، فقال له: يا أبا عثمان قد ترى ما في وجهي من القروح والجروح، فلو دعوتم الله تبارك وتعالى لي؛ لعل الله تعالى أن يشفيني من هذا الأمر الذي شوهني، فرفع أبو عثمان الصابوني -رحمه الله- يديه ودعا وأمن الحضور وضجوا رجالاً ونساء بالبكاء والدعاء للإمام أبي عبد الله الحاكم؛ لأنه من أئمة الإسلام، ومن رجاله العظام، ومن شيوخ أهل السنة والجماعة، فلما كانت الجمعة الثانية كتبت امرأة ورقة وألقت بها في المجلس، وإذا بها تقول: إنني بعد أن رجعت إلى بيتي دعوت الله عز وجل لـ أبا عبد الله الحاكم أن يشفيه، فلما نمت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: قولي لـ أبي عبد الله الحاكم يتصدق وليسق المسلمين الماء، لعل الله أن يشفيه، فأخبرت أبا عبد الله الحاكم بذلك فتصدق وحفر الآبار وأجراها على المسلمين، فما هو إلا وقت يسير حتى شفاه الله تبارك وتعالى وعافاه.

أيضاً: قصة أبي عبد الله الحاكم هذه لما تبحث عن خانتها في الطب أو أي صيدلية تصرف مثل هذا فلا يوجد، لكن الذي يعلم أمور التشريع يدرك أنه، كما قال الله عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] فالعلم لا يزال يحبو، حتى علم الطب مع أنه من العلوم المتقدمة لا يزال يحبو وأمامه مجالات واسعة ومجاهيل كبيرة، هو فيها يحتاج إلى دليل، وهذا الدليل هو الشرع والوحي والنص السماوي.

ومن عجيب وغريب ما يروى في هذا الباب -أيضاً- ما ذكره الطرطوشي وغيره: أن هناك رجلاً كان اسمه نظام الملك، وكان وزيراً لأحد سلاطين السلاجقة، فكان نظام الملك هذا رجلاً صالحاً يتصدق بالأموال على الفقراء، والمساكين، والمحتاجين، وطلاب العلم، والدعاة، والمصلحين، حتى قيل إنه كان يدفع سنوياً ستمائة ألف دينار يوزعها على هؤلاء من خزينة بيت مال المسلمين، يوزعها عليهم ولا يترك طالب علم، ولا محتاج، ولا إمام، ولا عالم، ولا داعيه، إلا أجرى له من ذلك شيئاً كثيراً، فجاءه يوماً السلطان السلجوقي وهو أبو الفتوح، وكان شاباً أصغر منه سناً، فقال له: يا أبتِ! -يعني: يسميه هكذا من باب الإجلال لكبر سنه- قد بلغني أنك تصرف ستمائة ألف دينار من خزينتنا على هؤلاء الناس الذين لا ينفعوننا بشيء، فلا هم جنود في أيديهم سلاح، ولا هم حراس، ولا شرط، ولا أعوان، ولا كتاب، ولا شيء، وهم هناك في المساجد، أو في حلق العلم، أو في دروس العلم، أو في غير ذلك، فلماذا تصرف هذا المال لهم كلهم؟! فقال له نظام الملك: يا ولدي أنا شيخ كبير السن أعجمي لو عرضتُ في سوق من يزيد -يعني كما نقول نحن في لسان العصر الحاضر في سوق الحراج- لا أساوي خمسة دراهم، وأنت كذلك غلام تركي، لو عر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015