ومن أعظم حكم وجود المعصية وخلقها أيضاً: إبراز فضل المؤمنين ومكانتهم واستقامتهم، فلولا طغيان فرعون وجبروته وظلمه، لما ظهر فضل موسى عليه الصلاة والسلام وإيمانه وتقواه وكرمه وصبره، ولولا تسلط النمرود وتألهه وتعاظمه وادعاؤه، لما ظهر للناس فضل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وصبره ومكانته عند الله عز وجل حتى إنه يلقى في النار فيصبر لله عز وجل ويقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
قال ابن عباس -رضى الله عنه-: [[حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: ((إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) [آل عمران:173]] ] .
ولولا ظلم اليهود وبطشهم وماديتهم وقسوتهم وفسادهم، لما ظهر للناس فضل عيسى عليه الصلاة والسلام وصبره، وتواضعه، وتسامحه، وإيمانه، وبره، وتقواه.
ولولا ظلم قريش، وطغيانها، وكفرها، وتمردها، وعنادها، ومن ورائها الدنيا كلها، لما ظهر للناس فضل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وصبرهم على دين الله عز وجل، وتحملهم المشاق في سبيله، وتضحيتهم بالغالي والنفيس في سبيل الله تعالى، فإن من أعظم حكم وجود المعصية أن يظهر الله تعالى فضل الفضلاء، فيبرز الأنبياء الصادقون، ويبرز المجاهدون، والمؤمنون، والمتقون، فتبين حقائق الرجال، وتظهر جواهرهم ومعادنهم وتتميز، هذا في الدنيا.
أما في الآخرة فكما قال الله عز وجل: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء:21] يقول القائل: وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف فضل عرف العود يعني هذا العود الذي يتبخر به الناس، لولا أن النار تشتعل فيه فتظهر رائحته وطيبه ما عرف الناس ذلك، إذن كذلك الأبرار والصالحون، إذا مسهم أذى الفجار وظلمهم وإيذاؤهم وطغيانهم ظهرت معادنهم وحقائقهم، وتميزت وصفت، فبانوا أصفى من الزجاج، وأبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأقوى إيماناً، وأرسخ من الجبال الراسيات.