والنماذج من قضية التدين والدين ليست نماذج محددة -كما ذكرت لكم- ولا مانع أن نستعرض معكم -سواء أكانت من التاريخ أم من الواقع القريب- شيئاً منها، فمثلاً: العرب في الجاهلية كان عندهم بقايا من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكانت هذه البقايا تتمثل في أشياء مثلاً: الحرم الآمن، وهذا الحرم الآمن قد ورثوه عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فمسألة الحرم وتعظيم الحرم من تلك البقايا؛ لهذا كانت العرب لا تقاتل في الحرم، ومعروف في سبب فتح مكة، أن بعض قريش غاروا على خزاعة في الشهر الحرام، وفي المكان الآمن، وفي الحرم الآمن، وقتلوهم، حتى لما ذكروهم بالحرم، إذا واحدٌ منهم سيئ الطوية، سليط اللسان، قال كلمة كفرية عظيمة كان العرب يتناقلونها بشيء من الاستعظام لها، والاستهوال، أن إنساناً تبلغ به الوقاحة، ويبلغ به الإجرام إلى حد أنه يقول مثل تلك الكلمة في مثل هذا البلد الآمن، وفي مثل ذلك الشهر الآمن.
فأقول: من الأشياء التي كانت أيضاً عند العرب، قضية الأشهر الحرم، فكانوا يحرمون القتال في الشهر الحرام ولذلك لما اعتدى بعض المسلمين عليهم، كسرية عبد الله بن جحش، استعظمت قريش ذلك، وقالوا: استحل محمد وأصحابه القتال في الشهر الحرام؛ فأنزل الله تعالى قوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ} [البقرة:217] المهم كانت العرب إذا أرادت أو احتاجت إلى أن تقاتل لا تقاتل في الشهر الحرام.
ومن ذلك قضية تحريم المحرمات من النساء، هل كنت تعلم في الجاهلية أحداً من العرب يتجرأ على بعض المحارم بنكاح أو سفاح؟ أبداً، بل كانوا يعظمون الدين في قضايا المعاملات الاجتماعية، في حدود ما وصل إليهم، تعظيماً كبيراً، ولهذا كانت العرب قد ورثت بعض بقايا من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فكانت تعظمها غاية التعظيم، ولا تسمح لأحد بالمساس بها بحال من الأحوال.
أما قضية المشاعر، وما يتعلق بالحج والعمرة، فقريش لما حصل بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم ما حدث، كانت تسأل أهل الكتاب، أمحمد صادق أم غير صادق؟! أهو على حق أم نحن على حق؟! ولهذا يقولون لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتوحيد الله عز وجل ونهاهم عن الشرك، قالوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:7] ويعنون بالملة الآخرة النصرانية، وهم طبعاً ليسوا أهل كتاب، ولا يعرفون حقيقة الأديان، ولا ماذا فيها، وإنما سألوا بعض أهل الكتاب من النصارى وغيرهم، فقالوا لهم: إن هذا الشيء الذي جاء به محمد لا يعرف.
أما القصة المعروفة، لما صارت الأحزاب، وذهب بعض اليهود إلى قريش منهم - حيي بن أخطب وغيره- قالت لهم قريش: أخبرونا ما بيننا وبين محمد؟ أنحن على حق أم هو على حق؟ أينا أهدى سبيلاً؟ قالوا: بل أنتم أهدى سبيلاً، وهكذا وقفت اليهودية في صف الوثنية ضد التوحيد، وضد الإيمان، لمجرد العداء لهذا الدين الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذم الله تعالى عليهم هذا الموقف الشائن القبيح فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [النساء:51-52] .
إذاً ما كانت العرب تعظم أهل الكتاب إلا من أصل تعظيمها للدين، بغض النظر عن كونه تعظيماً منحرفاً بعيداً، وقد أصيب بلوثات الوثنية، التي جاء بها عمرو بن لحي الخزاعي منالشام، فتأثرت بها الأمة العربية، بل إنها عبدت الأوثان والأصنام، كما هو معروف، وكان لكل قبيلة صنم يعبدونه، لكن حتى عبادتهم للصنم، على أي أساس عبدوه؟ {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] .