أما في هذا العصر فقد حدثت ظاهرة قد تكون جديدة، وهي: أنه منذ عشرات السنين قامت دولة قوية -وهي روسيا الشيوعية- على أساس مبدأ إنكار وجود الله عز وجل والتنكر للأديان، وقامت بالحديد والنار، وكان اليهود وراء الثورة البلشفية الشيوعية في روسيا، التي قامت فيما أعتقد عام 1917م بالتاريخ الميلادي.
وعلى كل حال فالمقصود أن الناس كانوا يتعجبون، ويقولون: سبحان الله! دولة قوية راسخة، ممكن لها! جذورها ضاربة في التربة، وأغصانها باسقة ممتدة، ولها أتباع! ولها دول تدين بدينها، وتتحالف معها في المشرق والمغرب، وحتى في جزيرة العرب وفي كل مكان، ومع ذلك هي دولة تقوم على أساس مبدأ الإلحاد وإنكار وجود الله عز وجل فكان الناس يتعجبون، وهذه من طبيعة الإنسان، قال تعالى: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء:11] .
أي: أن أكثر الناس ليس لديه قدرة أن يبعد بنظره عن الواقع الذي يعيشه لينظر إلى الماضي -مثلاً- أو ينظر إلى المستقبل، فهو -غالباً- محصور بالواقع القريب، والآن انظر كيف أن الله عز وجل أبان لنا بعبرة قوية واضحة الآية الربانية، أن هذه الدولة التي قامت على أساس مبدأ الإلحاد والتنكر للفطرة البشرية، سقطت بين يوم وليلة، لماذا سقطت بين يوم وليله! ولم تسقط بالتدرج، سقطت دفعة واحدة؛ لأنها كانت دولة مدعومة بالحديد والنار والقوة.
وزعماء هذه الدولة مثل إستالين وغيرهم، كانوا نماذج للبطش والقتل والتشريد، حتى إنهم أسالوا دماء المسلمين في الجمهوريات التي يسمونها الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، إذ كانت مدناً إسلامية شهيرة وعريقة، ومعروفة في التاريخ كسمرقند وطشقند وبخارى، وغيرها من المدن العريقة التاريخية ذات السمعة المعروفة، فسحقوا هذه المدن، وسحقوا الإسلام فيها، وسحقوا النصرانية أيضاً، ودمروا كل شيء يمت إلى الدين بصلة، وحولوا المعابد سواء أكانت مساجد أم كنائس أم غيرها إلى إسطبلات للخيول، ومستودعات، بل أحياناً أماكن للفساد والرذيلة.
وخلال ستين أو سبعين سنة بل أكثر من ذلك، وهم يستخدمون كل ما أعطاهم الله عز وجل من القوة في إبادة جميع المشاعر الدينية، وإبادة حتى الانتماءات القومية، كون هذا من عنصر أو من جنسية أو من قوم، وهذا من قوم آخرين، أي: محاولة صهر الشعوب الروسية كلها في بوتقة واحدة، فما الذي حصل؟! بمجرد أن سقطت الشيوعية وتضعضعت وتزعزعت، ما الذي حدث؟ حدث أنهم لما استنشقوا عبير الحرية والهواء الطلق وبداية الانفتاح، أصبحنا نسمع عن كثير من هؤلاء أنهم رجعوا سبحان الله كأنهم أناس ساكتون ينتظرون متى تتاح الفرصة لهم! وهذا يعني أن الدين موجود في قلوبهم، لكنهم مضغوط عليهم ومحاربون؛ لذلك كانوا يعلمون أبناءهم الدين بطريقة سرية جداً، أي: كأن الدين عند الروس أشد خطورة من المخدر بلا شك، لذلك يحاربونه حرباً شعواء ولا يقبلون أي تسامح.
ففي مرة من المرات قام مجموعة من العلماء بزيارة روسيا في بعض المناسبات، والتقى العلماء بالمفتي-كما يسمونه- فما وجد شيئاً يستقبلهم به إلا أنه وضع أغنية لأحد المغنيات العربيات ليسمعهم إياها، فكان هذا هو الأسلوب الذي يستطيع أن يستقبلهم به، ويعبر عن محبته لهم، فما عندهم شيء، فالقرآن لا يوجد، وتعاليم الإسلام محيت، أو كاد القضاء المبرم على كل شيء يمت إلى الدين بصلة، وبمجرد ما تنفسوا تنفساً بسيطاً وبدت رائحة الانفتاح في روسيا؛ عاد النصارى إلى نصرانيتهم، وعمروا كنائسهم ومعابدهم ورجعوا إليها، والمسلمون هم الآخرون بدءوا يعودون إلى دينهم، وبدءوا يقبلون ويقيمون الجسور والعلاقات مع المسلمين في كل مكان.
وبدأنا نسمع أخباراً وأشياءً من وراء الستار الحديدي الذي ضرب على المسلمين زماناً طويلاً في الجمهوريات السوفيتية، إذاً الدين كان موجوداً مختفياً تحت أكوام من الرماد، وبمجرد ما أتيحت لهم فرصة عبروا عن تدينهم، وحتى القوميات رجعت، وأنتم تسمعون أخباراً في روسيا عن المطالبة بالاستقلال في عدد من جمهوريات البلطيق وغيرها، سواء جمهوريات إسلامية أم نصرانية.
هذا أمر يجعلنا نقول: إن الدين قضية فطرية غريزية، والذين يحاربون الدين أو يقفون في وجه الدين، لا يحاربون شخصاً معيناً، ولا يحاربون فئة معينة، ولا يحاربون مجتمعاً معيناً، إنما يحاربون الله عز وجل لكنهم بعد ذلك يحاربون فطرة مركوزة في كل إنسان، يتنفسها كالهواء، فهو كما يحتاج إلى الطعام وإلى الشراب؛ فإنه كذلك يحتاج إلى التدين، الذي يلبي ويشبع هذا الظمأ الموجود في روح الإنسان وفي قلبه.
فالدين أمر فطري جبلي لا حيلة في دفعه، والذين يحاربون الدين هم كما قيل في الشعر: كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل افعل ما شئت، ودبر، واقض ما أنت قاض، وخطط، واعمل، وحارب في السر والعلن، بكل وسيلة، واستخدم ما تملك من وسائل، ومن إمكانيات، ومن قوى، ومهما تكن لن تبلغ قوة الاتحاد السوفيتي في وقت من الأوقات، وفي النهاية يظهر الدين بقوته، لذلك حتى أعداء الدين من الفلاسفة وغيرهم آمنوا بأن الدين قدرٌ لا محالة في دفعه، ولا يمكن محاربته، لكن ممكن أن يقللوا من تأثير الدين في حياة الناس، أو يعملوا على ذلك، وممكن أن يحاولوا إعطاء الناس معلومات خاطئة عن الدين والمتدينين، فيشوهوا صورتهم -مثلاً- إلى غير ذلك.
لكن حرب الدين نفسه، هذه حرب خاسرة، والذي يحارب الدين وأهل التدين سوف يبوء بالخسران، والفشل، والخيبة، والذل، والعار، والنار.
وإن قضية الاتحاد السوفيتي وما جرى فيه، إنما أذكرها فقط لأبين لكم أن الذين يحاربون الدين، أو يتنكرون للدين أصلاً ولوجود لله عز وجل هم دائماً وأبداً شذاذ.
ولذلك يقولون: حتى في زمن هيمنة وقوة الاتحاد السوفيتي، لما ذهب رائد من رواد الفضاء إلى الطبقات العليا من الجو -كما يذكرون- ولما رجع تحدث بصورة المتأثر المؤمن بالله عز وجل وقال: إنني بعدما ارتفعت ونظرت إلى الكون، وإلى هذه المنظومات والأفلاك، وكذا وكذا وكذا، أي: ذكر أنه طفق يبحث عن الله، أي: أنه شعر في قلبه بأنه لابد من إله يدبر هذا الكون، ويدير شئونه، ويصرفه كيف يشاء.
فلما أدلى بهذا التصريح، فما هي إلا ساعات حتى غيروا هذا التصريح وقلبوا معناه إلى معنى آخر، ويذكر أن الرائد الفضائي فعلوا له ما فعلوا لمحاولة قتله، أو ما أشبه ذلك.