علم القلب من موجبات حسن الخاتمة

ولكن الأمر الذي قد يشكل عليكم، كيف يكون يعمل بعمل أهل النار وهو من أهل الجنة؟ إنسان مسرف على نفسه مات وهو يقترف كثيراً من المعاصي، ومع ذلك نقول إنه من أهل الجنة كيف يكون ذلك؟ فأقول: الجواب هو ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: {أن رجلاً من بني إسرائيل كان مسرفاً على نفسه بالمعاصي، فلما حضرته الوفاة جمع بنيه، فقال لهم: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإن الأبعد -يعني نفسه- لم يعمل خيراً قط، فإذا أنا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم انظروا يوماً شديد الريح فذروني فيه، فوالله لئن قدر الله على ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فأمر الله عز وجل هذا الإنسان فمثل بين يديه بعدما مات، عبداً سوياً كما كان، والله على كل شيء قدير {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فقال: يا عبدي ما حملك على هذا؟ قال مخافتك يا رب وأنت أعلم، فغفر الله تعالى له} والحديث متفق عليه.

وقد يقول قائل: كيف يغفر لهذا الرجل مع أنه أنكر قدرة الله عز وجل؟ فأقول: إنه كان جاهلاً، وممن يعذر بجهله كما هو في القصة، فكان ليس قادراً على أن يتعلم، ولا يجد من يعلمه، ويجهل أن الله عز وجل قادر على بعثه وإحيائه بعد موته بعد ما يسحق ويحرق ويذر في يوم شديد الريح، فغفر الله له؛ ليس لأنه عمل أعمالاً بجوارحه، ولكن لأنه عمل عملاً بقلبه، وما هذا العمل الذي عمله بقلبه فاستحق به المغفرة؟ إنه الخوف من الله، وأعمال القلوب.

أيها الإخوة: لا تقل أهمية عن أعمال الجوارح، انظروا -مثلاً- إلى رجلين الأول منهما: رجلٌ مصلٍ، صائم، عابد، مزكٍ، كثير الصدقات، وأعمال البر، ولكن فيه عيباً واحداً هو أنه معجب بعمله، مغتر بما فعل، مغرور بذلك، هذا الأول، عمله فيما يبدو للناس من أحسن الأعمال، ولكن عنده هذه العقدة وهي: الغرور بعمله، والإعجاب والإدلاء على الله بنعمه، وآخر مسرف على نفسه، واقع في المعاصي، ولكنه مسلم مصلٍ وعنده في قلبه شعور شديد بالندم والخطيئة، والخوف من الله، والذم للنفس، والتوبيح لها، فأيهما أقرب إلى الله زلفى -ماذا ترون- الذي يظهر أن الثاني أقرب إلى الله زلفى؛ لأنه مسلم، عَمَلُ قلبه من الخوف والانكسار يقربه إلى الله، أما ذلك الإنسان العامل بالطاعات في الظاهر، فربما يكون هذا العجب والغرور محبطاً لعمله والعياذ بالله ولذلك في الصحيح {أن رجلين من بني إسرائيل أحدهما مسرف على نفسه بالمعاصي، والآخر عابد فكان هذا العابد يقول للمسرف: يا فلان اتق الله ودع ما تصنع وينهاه عن فعله حتى مل منه فقال: (والله لا يغفر الله لفلان) فغفر الله له، وأحبط عمله} غفر الله للعاصي المنكسر القريب من الله المخبت الذي يوبخه ضميره، وأحبط عمل العابد المغتر بما فعل المتألي على الله؛ لأن عملك -أيها الإنسان- مهما كان افترض أن حياتك مضت في سجود وركوع، كل ما هو عندك فهو من عند الله فسجودك منة، وقدرتك على العبادة وتوفيقك في العبادة هو منة من الله، ولذلك يقول بعض الشعراء: إذا كان شكري نعمة الله نعمة عليَّ له في مثلها يجب الشكر فكيف أقوم الدهر في بعض حقه وإن طالت الأيام واتصل العمر إذا كان شكرك للنعمة هو نفسه نعمة؛ لأن الله وفقك للشكر، فبذلك ستجد نفسك في نِِعم تتجدد، وكلما شكرت نعمة كان الشكر نعمة تستحق الشكر، وهكذا تطول الأيام ويتصل العمر وأنت لم تؤد ولا بعض حق الله عليك، ولكن الله تبارك وتعالى يرضي منّا باليسير: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015