الحادثة السادسة: رواها البخاري رحمه الله في صحيحه (باب ما يدعى لمن لبس ثوبا جديداً) عن أم خالد رضي الله عنها وما أدراك ما أم خالد؟! أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص وهي جويرية صغيرة السن، ورد في بعض الروايات [أنه أُتي بها تُحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول رضي الله عنها: إنه أوتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثياب فكان منها خميصة سوداء -ثوب أسود- فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن حضر من أصحابه: من ترون نَكْسُ هذه؟ فسكت القوم ولم يتكلموا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ائتوني بـ أم خالد فجيء بها تحمل، وكانت جويرية صغيرة السن، فأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم الثوب وألبسها إياه بيده الشريفة] .
كان عليه السلام في شغل أي شغل! في عبادة ربه، في غزوه وجهاده، في دعوته إلى الله عز وجل، في انشغاله بأمور الناس، وفي استقباله للوفود، وفي عنايته بأمورهم.
فكلما نظرت إلى جانب من جوانب حياته، قلت كان مستغرقاً في هذا الجانب حتى كأنه لا شغل له غيره، والله إن من يقرأ سيرة رسول الله يقول هذا الكلام.
اقرأ -مثلاً- ما يتعلق الآن بحاله مع الأطفال يخيل إليك كأنه متخصص في تربية الأطفال ورعايتهم والعناية بهم ومراقبة أمورهم، لو تقرأ سيرته صلى الله عليه وسلم مع زوجاته تقول كأنه عليه الصلاة والسلام لا هَمَّ له ولا شغل إلا العناية بأمور زوجاته، مثلاً: قصة عابرة في صحيح البخاري وصحيح مسلم أن النبي كان يدور على نسائه بعد العصر -تسع زوجات عنده صلى الله عليه وسلم وكل واحدة يجلس عندها وقت- ففي يوم من الأيام أطال الجلوس عند حفصة، فاستبطأته عائشة رضي الله عنها، وأزعجها الأمر، فأرسلت الخادم تستطلع الموضوع، فقال لها الخادم: إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يشرب عسلاً؛ عند حفصة، فكرهت عائشة رضي الله عنها ذلك كرهاً شديداً فلا تحب أن يطيل الرسول صلى الله عليه وسلم البقاء عند حفصة أو يشرب عندها عسلاً، فاتفقت مع سودة وقالت لها: إذا جاءك الرسول صلى الله عليه وسلم فقولي له: يا رسول الله أكلت مغافير! -المغافير صمغ كريه الرائحة- أي: إني أجد منك ريح مغافير، فأمنا سودة رضي الله عنها تقول: والله ما إن أقبل الرسول صلى الله عليه وسلم ووقف على الباب، حتى كدت أبادره بالكلام قبل أن يقترب مني فرقاً منك يا عائشة -خوفاً منك- لكنها صبرت، حتى اقترب منها الرسول عليه الصلاة والسلام بحيث يمكن أن تشم رائحة فمه، فقالت: يا رسول الله! أكلت مغافير؟ قال: لا، شربت عسلاً عند حفصة.
قالت: إذاً يا رسول الله جرست نحله العرفط، أي: هذا العسل الذي شربته أكلت النحل الذي أخرجته العرفط.
وهو -أيضاً- نبات كريه الرائحة.
فقد لقنتها عائشة رضي الله عنها وعنهم أجمعين هذا الكلام، فخرج من عندها الرسول عليه السلام فجاء لـ عائشة فلما اقترب منها، قالت: يا رسول الله! أكلت مغافير؟ قال: لا، شربت عسلاً عند حفصة.
قالت: إذاً جرست نحله العرفط فقال: شربت عسلاً عند حفصة ولا أعود.
خرج إلى زينب رضي الله عنها، قالت: يا رسول الله، أكلت مغافير؟، قال: لا، شربت عسلاً.
قالت: جرست نحله العرفط، فقال: لا أعود، فلما جاء اليوم الثاني على حفصة قالت: أسقيك عسلاً.
قال: لا حاجة لي به.
عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي، فانزعجت لذلك سودة وحزنت، وقالت: لقد حرمناه.
قالت لها أمنا عائشة رضي الله عنها: اسكتي، اسكتي.
المهم إذا قرأت سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام في أي جانب تقول: كأنه لا هم له إلا هذا، وإذا قرأت أخباره في الغزو، والفتوح فهذا أمر يطول الكلام فيه، وكذلك أخباره في استقبال الوفود، وفي تعليم الناس، فسبحان الذي أعطاه وخصه بما لم يخص أحداً من العالمين، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] .
فالمهم أنه ألبس صلى الله عليه وسلم، هذا الثوب لـ أم خالد، وكان فيه أعلام -أي خطوط- فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى أعلامه بيده وينظر إليها، ويقول: سنى يا أم خالد، سنى يا أم خالد، وكلمة (سنى) باللغة الحبشية معناها حسن، أي: هذا حسن، هذا جميل- يقول: انظري إلى هذه الخطوط الجميلة، إلى هذه الأعلام الجميلة في الثوب حتى تفرح بهذا الثوب وتسر به، ومما يزيدها سروراً وتِيْهاً أن يكون الذي ألبسها إياه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة.
وكما ذكرت لكم أن أم خالد هذه هي بنت خالد بن سعيد، وهي زوج الزبير بن العوام، ولدت له أولاداً وكانت ممن هاجر إلى الحبشة.
ونقل للنبي صلى الله عليه وسلم سلام النجاشي.