في الجزء الخامس والثلاثين [[سئل -رحمه الله- عن الإخوة التي يفعلها الناس في هذا الزمان -يعني في زمنه- والتزام كل منهم بقوله: مالي مالك، ودمي دمك، وولدي ولدك، ويقول الآخر كذلك، ويشرب أحدهم دم الآخر فهل هذا الفعل مشروع أم لا؟ وإذا لم يكن مشروعاً مستحسناً فهل هو مباح أم لا؟ وهل يترتب على ذلك شيء من الأحكام الشرعية أم لا؟ وما معنى الإخوة التي آخى بها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار؟ فأجاب: الحمد لله هذا الفعل على هذا الوجه المذكور ليس مشروعاً باتفاق المسلمين، وإنما كان أصل الإخوة أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار، وحالف بينهم في دار أنس بن مالك، قال: وأما ما يذكر بعض المصنفين من أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين علي وأبي بكر إلى آخره، فهذا باطل -ثم قال- وتنازع العلماء في مثل هذه المحالفة والمؤاخاة- يعني التي حصلت بين المهاجرين والأنصار- هل يورث بها عند عدم الورثة من الأقارب والموالي على قولين: أحدهما يورث بها وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى روايتين، في قوله تعالى {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33] .
والثاني: لا يورث بها بحال، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في الرواية المشهورة عنه، وكذلك تنازع الناس: هل يشرع في الإسلام أن يتآخى اثنان، ويتحالفا كما تحالف المهاجرون والأنصار؟ فقيل: إن ذلك منسوخ، في حديث مسلم عن جابر {لا حلف في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة} ولأن الله جعل المؤمنين إخوة بنص القرآن، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {المسلم أخو المسلم} الحديث.
فمن كان قائماً بواجب الإيمان كان أخاً لكل مؤمن، ووجب على كل مؤمن أن يقوم بحقوقه وإن لم يجر بينهما عقد خاص، ومن لم يكن خارجاً عن حقوق الإيمان وجب أن يعامل بموجب ذلك، فيحمد على حسناته ويوالى عليها، وينهى عن سيئاته ويجانب عليها بحسب الإمكان -ثم قال- لكن لا نزاع بين المسلمين أن أحدهما لا يصير ولده للآخر، وكذلك مال كل واحد لا يكون مالاً للآخر، يورث عنه ماله، وأما شرب كل واحد منهم من دم الآخر، فهذا لا يجوز بحال، وأقل ما في ذلك مع النجاسة التشبه بالذين يتآخون وأنهم يتعاونون على الإثم والعدوان إما على فاحشة أو محبة شيطانية كمحبة المردان ونحوهم.
قال: وإنما النزاع -رجع إلى الخلاف- في مؤاخاة يكون مقصودهما فيها التعاون على البر والتقوى، بحيث تجمعهما طاعة الله، وتفرق بينهما معصية الله، كما يقولون تجمعنا السنة وتفرقنا البدعة، فهذه التي فيها نزاع: فأكثر العلماء لا يرونها استغناء بالمؤاخاة الإيمانية التي عقدها الله ورسوله، فإن تلك كافية محصلة لكل خير، فينبغي أن يجتهد في تحقيق أداء واجباتها، إذ قد أوجب الله للمؤمن على المؤمن من الحقوق ما هو مطلوب في النفوس، ومنهم من سوغها على الوجه المشروع إذا لم تشتمل على شيء من مخالفة الشريعة.
وبالجملة فجميع ما يقع بين الناس من الشروط والعقود والمحالفات في الإخوة وغيرها، ترد إلى الكتاب والسنة، فكل شرط يوافق الكتاب والسنة يوفى به، ومن اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق، فمتى كان الشرط يخالف شرط الله ورسوله كان باطلاً، مثل أن يشترط أن يكون ولد غيره ابنه، أو عتيق غيره مولاه، أو أن ابنه أو قريبه لا يرثه، أو أنه يعاونه على كل ما يريد وينصره على كل من عاداه، سواء كان بحق أم بباطل، أو يطيعه في كل ما يأمره به، أو أنه يدخله الجنة، أو يمنعه من النار، ونحو ذلك من الشروط، وإذا وقعت هذه الشروط وُفيَّ منها بما أمر الله به ورسوله، ولم يوف منها بما نهى الله عنه ورسوله، وهذا متفق عليه بين المسلمين، وفي المباحات نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه.
والكلام هذا جزل كبير ومتين، ومن أعظم ما يدل عليه ما عند شيخ الإسلام -رحمه الله- من العدل والإنصاف، والتواضع، والبحث عن الحق، ومعرفة الحق بدليله، وعدم الشدة والقسوة على المخالفين في مسائل الاجتهاد.