التفريق بين أصل ما اجتمعوا عليه وما طرأ عليه

الأمر الثالث: الذي ينبغي التنبه والتفطن له: هو ضرورة التفريق بين أصل ما اجتمع الناس عليه وبين ما طرأ على ذلك من غلو، أو بدعة، أو انحراف، أو تقصير، فمثلاً: قد يجتمع طائفة من الناس على الإسلام -الذي جمعهم في الأصل الإسلام- ولكنهم من قبيلة معينة، فانحازوا، وتميزوا عن غيرهم بهذا، وأصبح بينهم من التوالي، والتناصر، والتعاون ما ليس بينهم وبين غيرهم من القبائل الأخرى.

فنقول: أصل الإسلام الذي اجتمعوا عليه محمود، لأنهم فارقوا قومهم من القبيلة نفسها ممن لم يؤمنوا ولم يسلموا، فارقوهم وتركوهم وباعدوهم، وربما يحاربونهم -أيضاً- ولكن تعصبهم لهذا الأمر الذي تميزوا به وهو القبيلة، هو من الأمور المذمومة التي ينبغي أن يذموا عليها وينهوا عنها، مثله: المذاهب الفقهية، فأصل كون الإنسان منتسب إلى مذهب فقهي مجرد انتساب، هذا -إن شاء الله- لا يضر، ما دام الإنسان متى بان له الحق بدليله اتبعه، سواء أكان في مذهبه أم في غير مذهبه، ونحن نعلم أن كثيراً من الأئمة العظام منذ القديم وإلى اليوم، لا يرون حرجاً في مجرد الانتساب، فنحن نجد -مثلا- شيخ الإسلام ابن تيمية قد يقال له: الحنبلي، ومثله تلميذه ابن القيم في جماعة ممن هم في الحقيقة من المتبعين للحديث والسنة والقرآن، لا يعدلون بهما شيئاً، ولا يمكن أن يرجحوا قولاً لأنه قول المذهب، وإنما يرجحون ما دل الدليل على ترجيحه، كما نجد ذلك في جماعة من علمائنا المعاصرين، على رأسهم سماحة الوالد الإمام ابن باز، فإنني قد سمعته يقول: إن مجرد الانتساب أمره هين أو كلاماً نحو هذا، يعني: كونه يقال عنه الحنبلي، لكن المهم في الحقيقة هو لا يمكن مثلاً أن يرجح قولاً من الأقوال لمجرد أنه قول الحنابلة، ومثل -أيضاً- ما نراه في فتاوى ودروس فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -حفظه الله- وغيرهم من العلماء -أيضاً- فأنت لا تجد تعصباً للمذهب، ولا ميلاً إلى قول لمجرد أنه قول الأصحاب، ولكن تجد التزاماً بالدليل من الكتاب أو السنة، فهذا القدر ليس فيه إشكال كوني حنبلي، ونشأت في بيئة حنبلية، وأنت شافعي، هذا لا يضر ولا يشكل ما دام أن الإنسان متى بان له الحق بدليله من الكتاب والسنة أخذه وترك ما سواه، لكن وجد في بعض أتباع المذاهب من الغلو والتعصب والاستدلال للمذهب شيء عظيم، حتى قال بعضهم: كل نص خالف مذهبنا فهو إما منسوخ أو مؤول فجعل المذهب أصلاً، وجعل النصوص تبعاً.

هناك ألوان كثيرة من التعصب لا يمكن أن نميز بها مذهباً عن غيره، وإن كانت المذاهب متفاوتة، لكن في كل اتباع مذهب ألوان من التعصب خاصة في الماضي، وكان من جراء ذلك فساد عريض، حتى إنه ربما أدى الأمر بينهم إلى التطاحن، والتضارب، وربما سالت الدماء في بعض الأمصار، وفي بعض الأعصار، وهذا كله أصبح اليوم -ولله الحمد- إلى حد بعيد في عداد أحداث التاريخ، فتجد كثيراً من الناس خاصة من الشباب قد أقبلوا على الكتاب والسنة، ينهلون من معينهما، ويبحثون عن الدليل أياً كان، ولا يضرهم أن يكون الحق مع فلان أو فلان.

إذاً: لا بد من التفريق في أصل ما اجتمعوا عليه، فكون الإنسان يقول: أنا حنبلي، أو شافعي، أو حنفي، لأنه نشأ في هذه البيئة، أو درس العلم على هذا المذهب هذا لا يضر، لكن ما طرأ زيادة على ذلك من تعصب فهو مذموم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015