إنها مأساة كبيرة، أولها وأول صورها: الأسر: فهناك في معسكرات الاعتقال في صربيا ما يزيد على مائة وخمسين ألف مسلم معتقل، يعيشون في ظروف صعبة وغير إنسانية، وبعض شهود العيان من الغرب الكفار أيضا يقولون: رأيناهم أجساداً وجلوداً على العظام ليس فيهم إلا هذه الأنفاس التي تتردد، وكثيرون تنطق وجوههم بهول المأساة، ينتظرون الموت الذي يصبحهم أو يمسيهم، ومن بين هذا العدد الكبير (مائة وخمسون ألفاً) من بينهم ما يزيد على خمس وثلاثين ألف امرأة ما بين سن السابعة إلى سن الخمسين فضلا عن الأطفال والشيوخ.
وإن وزارة الخارجية الأمريكية تَعِد منذ أيام بإبراز حقائق جديدة وخطيرة حول مأساة هؤلاء، والإعلام العربي كله يغطي جوانب المأساة، ويتحدث عنها ولكن لا يحرك ساكناً! وكنموذج للتغطية الإعلامية الغربية لهذه المأساة أنقل لك تقريراً نشرته صحيفة هيرالد تربيون (في 7/10) بالتقويم الميلادي أيضاً عن هذه المآسي في معسكرات الاعتقال، أولاً: تكلمت الصحف عن تركيز الصرب في حملات الإبادة والاعتقال على الأطباء والمحامين والمهندسين وغيرهم، ثم تكلمت عن تقارير في جرائم الصرب في معسكرات الاعتقال تقول: (يقول السجين السابق: واسمه مسلم، وهو نحيل الجسم بعينيه الداكنتين المحتقنتين والذي لم يشأ أن يذكر اسمه كاملاً، ولكن وجهه بدا متأثراً، ويتحدث عن خمسة وسبعين يوماً قضاها في أحد المعسكرات، يقول: أجبرنا الحراس على الذهاب إلى خلف مظلة صغيرة حيث توجد شاحنات ودركترات، وقد رأينا الجثث وبعدها فهمنا كل شيء، كانت هناك ست وعشرون جثةً بعضها يفتقد الرأس، وبعضها يفتقد بعض الرأس، وبعضها بلا عيون، طلبوا منا وضع الجثث فوق البلدوزرات، ولكن كان صعباً علينا أن نمشي، فقد كنا نخطو فوق جماجم بشرية، وبعدها أخذونا إلى الساحة وأمرونا برفع جثتين أخريين، وعندما أصابنا الإرهاق قام الحارس بوضع بندقيته على وضع الاستعداد لإطلاق النار، ثم قال لنا: هل تريدون أن تكونوا أنتم التالين؟ لم نقل شيئاً فلم يكن هناك فائدة، نظر إلينا وكأنه كان يرحمنا وقال: حسناً اذهبوا واغتسلوا كانت ملابسنا متسخة بالدم ولم نتمكن من تنظيفها!!) .
وسرد الرجل قصته في الثكنات البديلة حيث يحتجز في أحدها أكثر من ألف وخمسمائة بسنوي في المعسكرات الصربية التي يديرها الرفاق من الصرب تحت رعاية الأمم المتحدة، لحين إيجاد ما يسمى بحق اللجوء السياسي لهم، وقضى غالبيتهم زمناً في معسكرات الاعتقال الكبيرة قبل أن تطلق سراحهم اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ونُقلوا في قافلة مكونة من واحد وثلاثين حافلة، حيث كانوا أول مجموعة كبيرة من السجناء الذين أُطلق سراحهم بموجب شروط اتفاق بين المجموعات اليوغسلافية البوسنوية المتحاربة، وهم أول من استطاعوا أن يتحدثوا بحرية عن التجربة المرة التي شاهدوها في معسكرات الاعتقال.
إنهم يصفون جحيم المعسكر في منطقة الأرخبيل البسنوية التي يسيطر عليها الصرب، والتي كان يتم فيها التعذيب والإعدام حتى أصبحت من المظاهر اليومية، وبالرغم من صعوبة أخذ روايات مستقلة إلا أنها أعطت أغلب التفاصيل للدليل الذي يؤيد الاتهامات المنتشرة عن أن القوات الصربية متورطة في أعمال وحشية ضد المعتقلين في المعسكرات، وغالبهم من الرجال الذين تسمح أعمارهم لهم بالانضمام إلى الجيش البسنوي.
بمعنى أنهم يتمكنون من القتال، وقد اعتقلوا لمنعهم من المقاومة ضد الميلشيا الصربية.
يقول أحد المسجونين: (إن المعسكرات هي أماكن لا يتورع الحارس فيها عن أن يقتلك من أجل ساعة في معصمك، وإن الأماكن التي يجبر فيها المسجونون لجمع الموتى لا يستطيعون فيها الوقوف على الأرض لشدة لزوجتها بفعل الدماء المتخثرة من جراح المسلمين.
ومنذ وصول الرجال المفرج عنهم إلى هنا في الأسبوع الماضي أصبحت الثكنات تعج بالمشاهد المبكية لالتقاء أفراد الأسر، لكنها أيضا كانت مدوية بالصرخات المفجعة للأقارب الذين علموا للتو أن أبناءهم وأزواجهم وآباءهم قد لاقوا حتفهم!) .
في إحدى المرات وقعت مجزرة جماعية في معسكر في أحد السجون الذي يديره الصرب شمال غرب البوسنة، ليلة الرابع والعشرين من يوليو حسب رواية صانع أقفالٍ مسلم ذكر أنه كان بداخل الغرفة في تلك الليلة، وقال: (إنه بعد إطفاء الأنوار مباشرة قام الحراس الصرب بقتل عدد لا حصر له من المسلمين بأسلحة أوتوماتيكية حيث كانوا مقيدين داخل حظيرة خانقة تعرف بالغرفة رقم [3] وأضاف الرجل قائلاً: إن الحراس كانوا يشتمون ويمشون على أجسادنا ويجلسون على الرءوس ويخنقون كل من يتحرك.
لقد مات أكثر من مائة وستين رجلاً في تلك الليلة، فيما قال ثلاثة من المسلمين الذين كانوا محتجزين في الغرفة المحاذية: إن خمسين آخرين من السجناء قد قتلوا في صباح اليوم التالي بعد أن دخلت دورية جديدة من الحراس الصرب إلى الغرفة [3] للبحث عن الذين مازالوا على قيد الحياة وقد اختفى عشرة سجناء آخرين، ولم يرجعوا أبداً بعد أن أجبروا على حمل الجثث في الشاحنة، وغادروا المعسكر برفقة هذه الشاحنة المملؤة بالجثث) وقال صانع الأقفال المسلم: إن القتل استمر على الحائط الخارجي لعدة ليال، وأضاف: في الصباح يقومون بجمع بقايا القتلى من المخ والدماء وقطع اللحم في عربة يدوية يدفع بها جندي صربي، وفي كلا المعسكرين فإن أكثر من أربعمائة من السجناء يحشرون سوياً في غرفة خانقة.
ويعتبر الضرب من المناظر اليومية كما يقول السجناء الذين أطلق سراحهم ويقوم بالضرب في أوقات مختلفة أفراد من الشرطة الصربية ورجال مجهولون يتخفون في بزات للتمويه ومدنيين صرب جاءوا من القرى المجاورة للمشاركة في عملية الانتقام.
ويروي شاب يبلغ من العمر أربعة وعشرين عاما في مدينة " برجيدو " البسنوية الشمالية: كانوا يضربوننا لحوالي نصف ساعة حتى يبدأ الواحد منا في نزيف الدماء، وكانوا يكسرون أضلعنا وأيادينا ويقطعون الآذان والأنوف، وقال بعض السجناء في "أومارسكا" إن الضرب يبدأ عندما ينتصف النهار وبعد أن يؤمروا بتناول طعامهم، وهو عبارة عن قدح من الأرز الفاسد في زمن لا يقل عن ثلاث دقائق، يجبرون بعد ذلك على الرجوع إلى الصالة المزدحمة بالسجناء والمليئة بهم والواقفين بين صفين من الحراس الذين يقومون بالضرب بعصا غليظة ومواسير من الحديد وخراطيم معدنية، وقالوا: إن أحد الحراس استخدم فأسا جبلياً لضرب السجناء بعنف أثناء مرورهم.
نعم هذا ما يفعله النصارى في زمن يسمونه زمن الحرية، وزمن الحضارة، وزمن المحافظة على حقوق الإنسان، وزمن العالم الذي أصبح قرية صغيرة يتسامع بكل حدث في أي مكان من العالم، وعلى مرأى ومسمع من الدول التي تتشدق بهذه الشعارات وتتكلم عن حقوق الإنسان، فإن صحيفة غربية، لا يمكن أن تتهم بأنها محايدة فضلاً عن أن تتهم بأنها متعاطفة مع المسلمين، بل إن عاطفتها مع النصارى ولابد إن صحيفة غربية تنقل مثل هذه الحقائق، فما بالك إذاً وماذا تتصور أن تكون الحقائق القائمة على سطح الواقع؟ لابد أنها أخطر من ذلك بكثير، هذا نموذج من جوانب المأساة.