العقاب على كل مخالفة ليس من أسلوب التربية

قال ابن خلدون: وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلية؛ لأنه إذا وقع العقاب به ولم يدافع عن نفسه؛ يكسبه ذلك المذلة التي تكسر من ثورة بأسه.

وهذا ينطبق على أرباب الولايات، صغروا أم كبروا، حتى الأب مع ابنه، إذا كان الأب يعود ابنه -مثلاً- على أنه يوبخه على كل شيء، ويعاقبه على كل شيء؛ ينشأ الابن ضعيفاً ذليلاً منكسراً ليس لديه شجاعة ولا جراءة، يخاف من كل أمر ويحسب حسابات كثيرة تجعله لا يقدم على أمرٍ من الأمور، وهكذا المعلم مع تلميذه والشيخ مع طلابه.

ولهذا قال بعض المؤدبين: لا ينبغي لمؤدب أن يضرب أحداً من الصبيان في التعليم فوق ثلاثة أسواط.

وأذكر لكم قصة عجيبة حدثني بها أحد الإخوة الكويتيين منذ فترة من الزمن، يقول: كان هناك رجل له مجموعة من الأطفال فاشترى بيتاً جديداً، وأثثه أثاثاً حسناً، كلفه مبالغ طائلة، فلما نزل هو وزوجته وأطفاله في هذا البيت كانوا في غاية الفرح والسرور، وخرج الأب في يوم من الأيام إلى عمله في الصباح، واشتغلت الأم بالطبخ والتنظيف وإعداد المنزل، أما الصبيان الصغار فقد تفرغوا لهذا الأثاث فأخذ كل واحد منهم سكيناً وذهبوا يعبثون به فأتوا عليه من آخره، خربوا الأثاث وحطموه ومزقوه.

فلما أتى الأب وجد أن هذا الأثاث الذي دفع فيه مبالغ طائلة وأثماناً باهظة قد مزق وخرب شر تخريب، فغضب غضباً شديداً وأتى إلى هؤلاء الأطفال فربطهم بأيديهم وأرجلهم بحبالٍ غليظة، وأسرهم أسراً شديداً، وتركهم فبكوا ثم بكوا ثم بكوا حتى تفتت أكبادهم، والرجل كأن قلبه قدَّ من الصخر، لا يلين ولا يتأثر من هذا المشهد، فلما همت الأم بهم هددها إن تعرضت لهم بالطلاق، فلما يئس الأطفال وتفتت أكبادهم وبحت حلوقهم؛ سكتوا عن البكاء، فلاحظ الأب على أيديهم وأرجلهم زرقة، ولاحظ أن لونها يتغير إلى الزرقة، فاقترب منهم فخاف أن يتطور الأمر ففك هذه الحبال فوجد أن الأطفال أصبحوا يترنحون وقد أصيبوا بالإغماء، فذهب بهم سريعاً إلى المستشفى.

فقال له الطبيب: إن هذه الأجسام قد تسمم الدم في أيديهم وأرجلهم، وهذا الدم المتسمم إذا سار إلى القلب فإن الوفاة محتملة؛ ولذلك لا بد أن تبتر أطرافهم حفاظاً على حياتهم، ووقع الأب ودموعه تنهمر، فوقع على عملية بتر أطراف هؤلاء الأطفال خوفاً من موتهم وهكذا قطعت أيديهم، وكان مما يزيد من حزن هذا الأب وكآبته أن هؤلاء الأطفال بعد أن صحوا من العملية وصاروا يتلفتون وينظر الواحد منهم إلى نفسه بلا يد وبلا رجل، كان كل واحد منهم يقول: أبتي!! أعطني يدي ورجلي ولا أعود إلى مثل هذا العمل، فكان الأب يبكي من ذلك أشد البكاء، ولكن بعد فوات الأوان.

إذاً: هذا الأسلوب في التربية، سواء كان أسلوب الأب مع أطفاله في العقاب الشديد على الخطأ، أو أسلوب المعلم مع طلابه، أو أي ولاية فإنه يورث الناس نوعاً من الذل والمهانة وعدم الثقة بأنفسهم، ويجعل هؤلاء الناس ليس لديهم استعداد للشجاعة والقوة والحمية والأنفة، وإنما هم ناس اتكلوا على غيرهم واعتمدوا عل من سواهم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015