أسباب الغثائية

وقد يتساءل البعض: ما هي أسباب الغثائية؟ فأقول: الأسباب كثيرة جداً، لكن أذكر منها سببين ذكرهما الإمام العلامة ابن خلدون في مقدمته، وهما: السبب الأول هو: الشجاعة الفطرية عند العرب، فلذلك اختار العرب سكن البوادي على الحضر؛ لما في الحاضرة من ضعف العز، ولأن الجبن إنما ينشأ من رغد العيش وطيب الحياة والانغماس في الملذات، فالذي ينشأ في الرفاهية والنعيم وحياة المدنية المفرطة، ويعتاد على سكن البيوت والاحتجاب بالأبواب؛ تضعف لديه غريزة الشجاعة ويعتاد الأمن حتى يصبح حاله كحال ذلك الأعرابي الذي قيل له: ألا تغزو وتقاتل العدو؟ فقال: والله إني لأبغض الموت وأنا على فراشي فكيف أركض إليه ركضاً في المعارك، كيف أقاتل العدو؟ أو كحال أسلم بن زرعة الذي وجهه الأمير عبيد الله بن زياد لقتال الخوارج، وبعث معه ألفي جندي، وكان الخوارج أربعين رجلاً لكنهم شجعان أقوياء بقيادة خارجي مشهور يقال له أبو بلال، فلما قاتلوهم حمل الخوارج على أسلم هذا وقاتلوه قتالاً مستميتاً حتى فر هو ومن معه، فلما دخل على عبيد الله بن زياد وبخه وقال له: كيف تهرب من أربعين ومعك ألفا مقاتل؟!! وما زال يوبخه ثم خرج من عنده، فلما خرج قال له الناس: وبخك الأمير.

قال: والله لأن يوبخني الأمير وأنا حي خير من أن يمدحني الأمير وأنا ميت.

إذاً: فكل ما يريده هذا المقاتل أو هذا الزعيم على السرية أن يستمتع بالحياة وأن يظل حياً، وبعد ذلك لا يهمه شيء.

أما العرب الأولون فكانت الشجاعة جبلةً وغريزة فيهم، حتى إن العرب كما قال الألوسي وغيره: إنهم كانوا يتمادحون بالموت قطعاً بالسيوف ويتهاجون بالموت على الفراش.

فيقولون: فلان مات حتف أنفه -أي مات على فراشه- هذا علامة ذل وسب له، أما إذا قالوا: فلان مات مقطعاً بالسيف والسنان والرماح والخناجر، واختلفت السيوف في بطنه، كان هذا دلالة على المدح والثناء عليه.

قال بعض العرب وقد بلغه موت أخيه: إن يقتل فقد قتل أخوه، وأبوه، وعمه، إنا والله لا نموت حتفاً، ولكن نموت قطعاً بأطراف الرماح وتحت ظلال السيوف.

ومن قصيدة السموأل المشهورة يقول: وما مات منا سيد حتف أنفه ولا طل منا حيث مات قتيل تسيل على حد الضباة نفوسنا وليست على غير الضباة تسيل أي يفتخر بأنه ما فينا سيد أو زعيم مات حتف أنفه، أي: مات على فراشه، إنما في المعارك وتحت ظلال السيوف.

وكذلك حسان بن ثابت رضي الله عنه يقول: فلسنا على الأعقاب تدمى قلوبنا ولكن على أعقابنا تقطر الدما أي لسنا أناساً نفر إذا خضنا المعارك، بحيث نهرب ونصاب من أدبارنا ويسيل الدم على أعقابنا، وإنما إذا أصبنا يصاب الواحد منا وهو مقبل غير مدبر؛ فيقطر الدم وهو مقبل على العدو غير مدبرٍ عنه.

وكذلك من أبيات الشجاعة المعروفة: قول عنترة: بكرت تخوفني الحتوف كأنني أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل فأجبتها إن المنية منهل لا بد أن أسقى بكأس المنهل فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي أني امرؤ سأموت إن لم أقتل وهذه فلسفة واضحة أن الموت لا بد منه، فإذا لم يمت الإنسان قتلاً مات حتف أنفه، إذاً أن يموت شريفاً عزيزاً خير له من أن يموت ذليلاً مهاناً.

ثم يقول ابن خلدون: والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة، وانغمسوا في النعيم والترف، ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم والحامية التي تولت حراستهم، واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم والحرز الذي يحول دونهم، فلا تهيجهم هيعة، ولا ينفر لهم صيد، فهم آمنون، قد ألقوا السلاح، وتوالت على ذلك منهم الأجيال، وتنزلوا منزلة النساء والولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم، حتى صار ذلك خلقاً لهم يتنزل منزلة الطبيعة.

ثم يتكلم عن أهل البدو وما فيهم من الشجاعة، فيقول: وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع، وانتباذهم عن الأسوار والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم، لا يكلونها إلى سواهم، ولا يثقون فيها بغيرهم، فهم -دائماً- يحملون السلاح ويتلفتون عن كل جانب، ويتجافون عن الهجوع إلا غراراً في المجالس، وعلى الرحال وفوق الأقتاب، ويتوجسون للنبآت والهيعات، ويتفردون في القفز والبيداء، مدلين ببأسهم، واثقين بأنفسهم، قد صار لهم البأس خلقاً والشجاعة سجية، يرجعون إليها متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ.

أ-هـ إذاً: هناك فرق لأن الإنسان إذا تعود على السكنى في البيوت، وإغلاق الأبواب والاعتماد على غيره، وألف حياة الدعة والراحة، حياة رتيبة فهو معتادٌ عليها، آمن مطمئن واثق، ولذلك أصبح هذا الإنسان يفزع لأي طارق ولم يتعود على الشجاعة، حتى لو أنه سمع صوتاً في أقصى الدار، صوت قط -مثلاً- لفزع وذعر.

كما يروى أن رجلاً سمع صوتاً في أقصى بيته فتوهم أنه لص يريد أن يسرقه، فقام هذا الرجل وهو يرتعد من الخوف والذعر والفزع ومعه السيف، فقال: يا أيها المدل علينا، المغتر بنا، المجترئ علينا، أتعرف هذا السيف؟ إن هذا السيف يسمى لعاب المنية، قد قتلت به وقتلت وقتلت وقتلت -ويذكر بعض الشجعان الأجواد الأقوياء -وما زال يلقي هذه الخطبة وهو يرتجف من الخوف والفزع، وكل لحظة يتوقع أن يغير عليه هذا اللص- فإذا بكلب يخرج من البيت، فلما رآه سكن روعه واطمأن، وقال: الحمد لله الذي مسخك كلباً وكفانا حرباً.

فكثير من الناس يعتادون على مثل هذه الحياة، فأصبح كل شيء يخيفهم، ولا شك أن الإنسان يستطيع أن يدرب نفسه على حياة الجد والقوة، ومما يقوي على ذلك كثرة الأسفار والخروج إلى الصحاري والتدرب على الانفراد سواءً للعبادة أو للاستطلاع أو للسير، أو لغيرها من المعاني والأشياء التي من شأنها أن تقلل من حياة الدعة والاسترخاء التي يعيشها كثيرٌ من الناس.

أما السبب الثاني: فعبر عنه ابن خلدون رحمه الله تعالى بأنه يعود إلى أن الإنسان لا يملك غالباً من أمر نفسه شيئاً بل يملك أمره غيره، فإذا كانت الملكة رفيقة عادلة، لا يعاني منها حكم، لامنع وصد كان الناس من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن، أما إن كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة؛ فإنها حينئذٍ تكسر من سورة أنفسهم، وتذهب بالمنعة عنهم، لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة -كما قال ابن خلدون -.

ولذلك وبخ عمر رضي الله عنه سعد بن أبي وقاص في قصة مشهورة حدثت في معركة القادسية.

كان هناك رجل اسمه زهرة بن جوية لحق هذا الرجل الشجاع برجل من الفرس يقال له الجالنوس، لحق به في المعركة فأجهز عليه وقتله وأخذ سلبه وكان خمسة وسبعين ألفاً من الذهب، أي: مبلغ ضخم، فلما أخذه جاء إلى سعد بن أبي وقاص وقال له: كيف تأخذ سلب رجل خمساً وسبعين ألفاً من الذهب؟! هذا غير معقول! هلا استأذنتني حين أردت أن تلحق به وتقتله، ثم بعث سعد إلى عمر يستشيره في الأمر، فماذا قال له عمر؟ قال له: تعمد إلى مثل زهرة وقد صلي بما صلي به -أي تكلف ما تكلف وعانى ما عانى- وبقي عليك من حربك ما بقي، وتكسر قوته وتفسد قلبه، وأمضى له عمر سلبه.

أي أنت يا سعد في حالة حرب، تحتاج إلى الرجال الأقوياء السادة، وكذلك هذا الرجل له بلاء وخدمة وجهاد فتقابله بمثل ذلك، وتكسر من عزيمته وهمته!! لا.

بل أعطه سلبه ولا تتعرض له بمثل هذا الموقف.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015