التساهل في النقل والتوسع فيه

نقطة أخرى في موضوع واقع الناس: موضوع التساهل في النقل والتوسع فيه، وفيما يروى كما ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت، يقول: إن عيسى عليه السلام مرَّ ومعه قومه، فقال لمن حوله: لو مررتم برجل نائم وقد كشفت الريح بعض ثوبه، وبانت عورته، ماذا كنتم تصنعون؟ قالوا: كنا نرده عليه -نغطيه- قال: بل كنتم تكشفون ما بقي، يقول عيسي: بل كنتم تكشفون ما بقي!! إن فئة من الناس إذا علموا بعيب لم يستروه، بل زادوه من عندهم عيوباً، ونشروه وأشاعوه بين الناس، ويحرصون على ذكر السيئات وستر الحسنات، وهذا خلاف الواجب للمسلم كما قال محمد بن سيرين رحمه الله: [[إنه ظلم لأخيك أن تذكره بأقبح ما تعلم، وتنسى أحسنه]] .

وقد ذم الأقدمون من الشعراء وغيرهم مثل هذه النوعية من الناس، يقول أحدهم: ما بال قوم لئام ليس عندهمو دينٌ وليس لهم عهد إذا اؤتُمنوا إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا منا وما سمعوا من صالح دفنوا إذا سمعوا الريبة والشك نشروه وفرحوا به، وإذا سمعوا الأمر الصالح دفنوه وستروه عن الناس.

صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به وإن ذكرت بشر عندهم أَذِنُوا (صُمٌّ إذا سمعوا خيراً ذكرتَ به) أي ليس لهم آذان فلا يسمعون، (وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا) أي: سمعوا وأنصتوا.

وهذا يدل على عيب الإنسان نفسه؛ أي إذا وجدت الإنسان لا يقع إلا على الأخطاء، فاعلم أن ذلك لعيب في نفسه؛ فإن الإنسان الناقص هو الذي يبحث عن نقائص الآخرين، ويذمهم بما فيهم وبما ليس فيهم.

أما الإنسان الذي هو أقرب إلى الكمال، فإنه يذكر محاسن الناس، ويعرض عن مساوئهم، فلا يذكرها إلا بقدر الحاجة، ولذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام لا يذكر عنده أحدٌ بسوء، ولا يُتكَلم في عرض أحد وهو حاضر عليه الصلاة والسلام، ولا يحب أن يذكر عنده أحد بسوء، ولا أن يُنهش عنده عرض، ولا أن يُذَم عنده مسلم، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم!! وبعض الناس إذا سمعوا نقلاً، أو قولاً، أو قيل لهم في شئ، ردوا بأبشع ما يقال، فإذا قيل: إن فلاناً يقول فيك كذا، وكذا، وكذا، فإن هذا الإنسان الذي قيل فيه ما قيل، يرد كما يقال: يرد الصاع صاعين، وهذا ليس هو الأدب الواجب.

يُرْوَى أن أم الدرداء رضي الله عنها جاءها رجل، وقال: إن فلاناً يقول فيك كذا وكذا، وكذا فذكر فيها كلاماً باطلاً فقالت له أم الدرداء رضي الله عنها: [[إن نُؤْبَن بما ليس فينا، فطالما مُدحنا بما ليس فينا]] أي كما أن هذا سبني وذكر أشياء ليست موجودة عندي، كذلك هناك ناس مدحوني، وقالوا فيّ أشياء ليست موجودة عندي، فهذه بهذه، هذه تقاوم هذه، ولم تسمح لنفسها أن تعلق على الموقف بشيء آخر.

وهناك رجل آخر قيل له: إن فلاناً يقول فيك كذا وكذا، وكذا، فقال: [[ألهاني عن الرد عليه ما أعلمه من نفسي]] ألهاني عن الجواب على هذا الإنسان ما أعلمه من نفسي، فلديَّ عيوب هو لا يعلمها، ولا قالها حتى الآن، فمعرفتي بعيوبي ألهتني عن الرد على الآخرين.

ومن طريف ما يروى في هذا الباب ما ذكره ابن حبان في نزهة الفضلاء، يقول: إن الشعبي -الإمام المعروف- كان في مكان، وإلى جواره قوم بينه وبينهم جدار ساتر، فلم يعلموا بوجوده، فكانوا يقعون في عرضه، ويتكلمون فيه، فانتظر لعلهم أن يسكتوا، ولكن القوم أفاضوا واستمروا! فطلع عليهم الشعبي برأسه وقال لهم: هنيئاً مريئاً غيرَ داءٍ مخامرٍ لِعَزَّةَ من أعراضنا ما استحلتِ ففوجئوا بذلك، وأسفوا، وندموا، واستحلوه، وعاهدوه على ألا يعودوا لذلك، فسامحهم في ذلك.

إذاً: خلاصة ما سبق: أن الإنسان يجب أن يحرص على أن يكون متثبتاً في الأخبار، ولا يتعجل في قبولها، وإن وجدت بعض أمائر الصدق، حتى يجد لذلك حجة قويةً، وإن كانت الأخبار تتفاوت، فهناك أشياء بسيطة لا يترتب على تصديقها ضرر كبير، لكن هناك أشياء كبيرة وعظيمة تتطلب قدراً من التثبت والتحري.

وإنني أذكر لكم قصة قصيرة أو صغيرة وقعت لي يكتشف الإنسان منها عبرة: في أحد الأيام واعدني شابٌ لا أعرفه، لكنه اتصل بي، وأصر على أن يلتقي بي لأن عنده مشكلة -كما يقول- وأخبرني باسمه، وكان اسمه -مثلاً- اسمه عبد الرحمن، واسم العائلة التي هو منها يبدأ بحرف معين لنفترض حرف الشين، وهو يأتي من بلد آخر، فلنفترض أنه يأتي من الرياض، ووعدته وقتاً معلوماً، ففي الوقت نفسه، جاء إنسان بالاسم نفسه، وعائلته أولها هو أول اسم العائلة الثانية شين أيضاً، وهو من البلد نفسها، ولم يكن هناك أية صلة، ولا لقاءٌ سابق، وأخلف الأول الموعد، فلو فرض أنه كتب ورقة مثلاً، وقال: أتيت ولم أجدك، وكتب مثلاً عبد الرحمن، ثم كتب الشين من الرياض، لما كان هناك أدنى احتمال أن الأمر سيكون عندي أن الرجل الذي ضربت معه الموعد جاء ولم يجدني، والواقع أن هناك شخصاً آخر.

فهذا يجعل الإنسان دائما يدرك أنه قد يوجد بعض القرائن توهم الإنسان بشيء، لو جمعها ظن الأمر هكذا، القضية هكذا، رأيت فلاناً -خرج فلان، دخل فلان، وقف فلان، وفلان قال، تفسر هذا الأمر تفسيراً بحسب ما في ذهنك، لكن لو أعطيت نفسك فرصة أن تتثبت فلا تتعجل في الأمر حتى ينجلي الأمر تماماً ويبرح، لوجدت في كثير من الأحيان قد يتوقع الإنسان الأمور علي غير ما هي عليه، قد تأتي الأمور في حقيقتها على غير ما توقعها الإنسان، ولذلك لا يندم أبداً الإنسان الذي يتثبت من أموره.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015