الإختلاق والكذب

وهذه من أخطر ما يكون أن بعض الناس إذا وجدوا في من يكرهونه -إما لمنافسة، أو لرياسة، أو لدنيا- عيوباً نشروها، وأفاضوا في الحديث عنها، وإذا وجدوا حسناتٍ ستروها وأخفوها، فإن لم يجدوا اختلقوا وكذبوا، ونشروا هذه الأكاذيب التي افتعلوها، فصار شأنهم كما قال الأول: إن يعلموا الخير يخفوه وإن علموا شراً أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا فهم بين ثلاث: إن علموا خيراً أخفوه -ستروه-، لا يعجبهم أن يُتحدث عن شخص يكرهونه بخير أبداً، وكأن هذا الذي يكرهونه تحول في نظرهم إلى شيطان رجيم، والعياذ بالله! وإن علموا شراً أذاعوا، ونشروا، وإن لم يعلموا شراً كذبوا واختلقوا، ونشروا هذا الإفك الذي اختلقوه.

ولا شك أن هذا يقع بالنسبة للعامة، لكنه يكون أخطر ما يكون إذا تعلق بالعلماء، وطلاب العلم والدعاة فإننا نجد كثيرا من الناس -مع الأسف الشديد- من المسلمين من يتناولون الزعامات الدينية من العلماء والدعاة والأئمة، بألسنة حداد، وقد تأملت الكلام الذي يقال في العلماء وطلاب العلم والدعاة، فوجدته يتراوح بين أمور خمسة غالباً:- فمنهم من يتهم العلماء بالمداهنة، فيقول: إن العلماء يجالسون السلاطين والأمراء، ويحضرون إليهم، فلا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً، فيتهمهم بالمداهنة، والسكوت عن الحق والرضا بالباطل، ولسنا نقول: إن الأمة بريئة من هذا الصنف، بل إنه منذ العصور الأولى كان يوجد من يجامل ويداهن، ولذلك كان من السلف من يكره الدخول على السلاطين، وحضور مجالسهم، لما فيها من منكر لا يستطيع له رداً.

لكن لاشك أن علماء كثيرين في هذا العصر، من علماء أهل السنة والجماعة، من لهم قدم صدق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاحتساب على علية القوم، والقول بالحق والصدع به، لكن: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب فالعيب عند هؤلاء أن علماءنا لا يتكلمون بما يفعلون، فالواحد منهم إذا نصح، وأمر، ونهى، لم يقم أمام الناس، يقول: أنا قلت وفعلت، وفعلت؛ لأنه إنما فعل ما فعل لله تعالى، ولهذا كان أحرص على كتمان عمله، وعدم إظهاره، مِن إظهاره، ورأى أن المصلحة في الكتمان، لأنه أدعى للقبول، وليست القضية قضية تشهير، فإذا احتج بعضهم، وقال: لماذا العلماء يبقون فيما هم فيه؟ فإننا نقول: إنهم رأوا المصلحة فيما يفعلون، وهذا اجتهاد سبقهم فيه جماعات كثيرة من السلف.

فإننا نجد من علماء السلف من رأى أن الدخول مع السلاطين والمشاركة لهم والجلوس إليهم وتولي أعمالهم، أن فيه مصلحة للإسلام والمسلمين، ومن هذا الصنف خلق كثير من السلف في عهد بني أمية وبني العباس وغيرهم، ومثل هذا الصنف لا شك مضطرٌ إلى السكوت عن بعض الأشياء وتأجيل أمور أخرى وتقديم الأهم فالأهم؛ فإن الإنسان لا يستطيع أن ينكر المنكرات كلها دفعة واحدة، ولكن لا بد من التدرج ومراعاة واقع الحال وتقديم الأهم على المهم.

النقطة الثانية التي قد يتهمونهم فيها: قضية المال؛ فإن من الناس من يقع في أعراض العلماء، ويدعي أنهم يجمعون المال من حله ومن حرامه، والذي نعلمه من علمائنا خاصة علماء هذه الجزيرة، ولست أقول هذا تعصباً لهم، كلا! فإننا نعتبر أن كل سائر على السنة في شرق الأرض أو غربها هو من علمائنا الذين ندين بحبهم ونشهد الله على ذلك ونتعبد به، أياً كان لونه، وأياً كانت بلده، وأياً كانت لغته، لا يعنينا ذلك في شيء، لكن أتحدث عما أعلم، أما ما لا أعلم فلا أقول عنه شيئاً، فالذي نعلمه من علماء هذه الجزيرة أن فيهم طائفة صالحة من العلماء جعلوا الدنيا تحت أقدامهم، فإذا أتيت إلى أحدهم وجدته يسكن في بيت متواضع أو عادي، فإذا نظرت لم تجد هذا الرجل مشتغلاً بمال، لا بمؤسسات، لا شركات، ولا مساهمات، ولا غير ذلك، بل إنني أعلم من كبار العلماء المشاهير من يحتاج أحياناً إلى أن يستدين خلال الشهر حتى يأتي الراتب، وهو عالمٌ مرموق، لو أراد الدنيا لانقادت له، ولكنه أعرض عنها، ورضي بما عند الله عز وجل، في حين نجد غيرهم من جميع الأصناف، أصناف الناس، من ولغوا في الدنيا، وركضوا إليها، وركنوا إليها، فلا نكاد نجد من يتحدث عنهم، إنما الألسن سريعة إلى أعراض العلماء، وهذا لا شك لا يبشر بخير.

المأخذ الثالث الذي تجد من يأخذه عليهم: مأخذٌ يتعلق بالسلوك، فإن من الناس من يحاول أن يلصق بالعلماء معايب ومآخذ في سلوكهم، ومسيرتهم العملية، وتعبدهم وغير ذلك، وهؤلاء العلماء أيضاً مهما يكن فيهم، فهم خير الناس، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7] إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8] مع قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] .

فعُلم أن العلماء خير البرية، فإن كان فيهم نقص، فالنقص في غيرهم أعظم، وأعم، وأطم؛ مع أننا نجد أيضاً أن كثيراً من العلماء مسلكهم حميد، وأن ما يشاع عنهم إنما هو بسبب عدم التثبت وعدم التحري.

وأذكر قصة طريفة في ذلك: أحد الناس يتبجح في مجلس، ويقول للحاضرين: هؤلاء العلماء، والدعاة الذين تحسنون الظن بهم، وتوقرونهم، وتجلونهم متناقضون، قالوا له: ما آية ذلك؟ ما آية تناقضهم؟ قال فلان: -وسمى رجلا- الذي وقف ضد الاختلاط في الجامعات، وحاربه وجاهد في سبيل ذلك -بنته تدرس في جامعة مختلطة، فقال له: بعض الحضور كذبت؛ لأنه عقيم لا يولد له، هذا الذي تدعي أن ابنته تدرس في الجامعة عقيم لا يولد له ولد! فكثيراً ما يزن بعض أهل العلم، والدعاة بمعايب في سلوكهم أو أخلاقهم، وهم منها براء، إنما يفعل ذلك من لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون.

المأخذ الرابع الذي يوجد من يعيبهم به: هو في قضية الفتوى، والكلام في موضوع الفتوى يطول، فإن الناس بسبب جهلهم يستغربون بعض المسالك من العلماء، فمنهم من يتعجب من اختلاف العلماء في الفتوى، لماذا يفتي هذا بشيء، ويفتي آخر بغيره؟ وهذا أمر طبيعي سبق أن بينته في مناسبات عدة، لا داعي لذكر السبب في ذلك، وهو أمر غير مستغرب، أن تختلف اجتهادات العلماء في المسألة الواحدة، ويفتي كل واحد منهم بما ظهر له من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ومنهم من يدعي أنهم يفتون بحسب الواقع، بمعنى أنهم يخضعون للواقع، وهذا من الخطأ أيضا، فإن الفتيا لا شك هي فتيا بحسب الحال التي يسأل عنها، وقد يكون الشي حلالاً في حال، حراماًً في حال أخرى، بل قد تقتضي المصلحة منع شيء في بلد ولو كان موجوداً في بلد آخر، وعلى هذا تنزل فتاوى كثير من العلماء الذين يمنعون بعض الأمور مراعاة للضرر الناجم عنها في بعض البلاد، ولو كانت موجودة ومباحة في بلد أخرى، أو يمنعونها في حال ولو أذنوا بها في حال أخرى؛ فإن الفتوى تتغير لا شك بحسب حال السائل، ونوعية سؤاله، والظروف المحيطة به؛ لأن الفتوى إنما هي تنزيل حكم الله ورسوله على واقع الناس أفراداً وجماعات.

ومنهم من يتهم بعض العلماء بأنهم يفتون بحسب أهواء السلاطين، وهذا أيضاً إن وجد في بعض البلاد، فوجدت من تتجارى بهم الأهواء، ويسارعون في هوى سادتهم، إلا أننا نجد كثيراً من علماء أهل السنة والجماعة في سائر الأقطار والأمصار يصدعون بكلمة الحق، ولو أغضبت أنوفاً كثيرة، وقد يدفعون ثمنها من حرياتهم، وأموالهم، وأرزاقهم، ووظائفهم، ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل.

النقطة الخامسة: التي كثيراً ما دندنوا حولها، فهي الكلام عن مذهب وطريقة العالم: بمعني أنه إذا كان هناك عالم مصلح مجدد، جمع الناس على الكتاب والسنة، وغيّر ما يوجد في واقعهم من البدع والخرافات والانحرافات، فإنك تجد خصومه وأعداءه ينشرون عنه قالة السوء، فيتهمونه بأنه مبتدع، وأنه منحرف، وأنه يدعو إلى مذهب جديد إلى غير ذلك من الأقاويل! ولعلكم تعرفون جميعاً الكلام الذي قيل عن الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، كم من فرية نسبت إليه!! وقد وقفت بعيني على كتاب كتبه أحد علماء ذلك العصر الذي جاء بعد الشيخ وهو مشهور معروف، ومع الأسف أنه يعد من العلماء، ويشار إليه بالبنان في ذلك الوقت، وقد قال كلاماً لا يمكن أن يقبله عقل أي عاقل، وإنما اختلقته أهواء الذين يبحثون عن رغبة هذا العالم، ورضاه، ثم صدقه هو وسَوَّدَ به صفحات كتابه، وهو كلام مما لا يمكن أن يتصور أنه صحيح بحال من الأحوال، حتى إنه قال -بلغت به الوقاحة- وهذا قرأته كما قلت لكم بنفسي -أن يقول: إن محمد بن عبد الوهاب في حقيقته يدعي النبوة، لكنه لم يتجرأ على أن يدعيها، فبدأ يتدرج.

وهذا من الإفك، والبهتان العظيم، ولا شك أن الله سائله عن مثل هذه الكلمة العظيمة، الوقحة! وفي الكتاب نفسه يقول: إن محمد بن عبد الوهاب كان يبغض الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إنه كان عنده مؤذن أعمى يقول: وكان هذا المؤذن الأعمى حسن الصوت، وسوف تعرفون لماذا أثنى علي هذا المؤذن بأنه حسن الصوت، وأظنه قال: إنه رجل صالح أيضا، حتى تتم حبكة هذه الأكذوبة، فيقول: كان هذا الأعمى إذا انتهى من الأذان، قال (اللهم صل وسلم على سيدنا محمد) فنهاه محمد بن عبد الوهاب، كما يدعي هذا الكذاب فلم ينتبه، فلما نزل من المنارة في أحد الأيام نزل له، وأخذ السكين وذبحه كما تذبح الشاة، من يتصور هذا؟ كذب فوق مستوى التصديق!! بعض الكذب يمكن أن يصدق، لكن هناك كذباً يبلغ من شدة كذبه أن العقول لا تقبله، وهذا من رحمة الله أن بعض الناس لا يحسن الكذب، فإذا كذب افتضح كذبه، وقال: إنهم غضبوا على امرأة فحلقوا شعرها!! فهذا من الكلام الذي اختلقته عقولهم! أن هؤلاء القوم قصدوا بإشاعة مثل هذه الأكاذيب تحذير الناس من قبول الحق، وتسميم عقولهم عن هذه الدعوة المباركة حتى لا يقبلوها أو يفكروا في النظر فيها، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] فهاهي الدعوة الإسلامية التي صدع بها هذا المجدد تشرق أنوارها في شرق البلاد وغربها، على الرغم ما أشيع حولها من قالة السو

طور بواسطة نورين ميديا © 2015