فالنوع الثاني: هو ضرورة التثبت في النقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد سبق التحذير من الكذب عليه فإنه من كذب عليه فإنه متوعد بنار جهنم، وأنه يتبوأ له من نار جهنم مقعداً، ولذلك كان السلف يتثبتون في الرواية والنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إن عمر رضي الله عنه له مواقف خالدة في ذلك.
أذكر منها موقفاً واحداً فقط على سبيل التمثيل، وهو ما رواه الشيخان وأصحاب السنن وغيرهم أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه استأذن على عمر مرة، أو مرتين، أو ثلاثاً، ولم يأذن له، وكان مشغولاً ببعض أمره، ثم لما فرغ قال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس أبي موسى؟ قالوا: بلى، قال: ائذنوا له، فوجدوه قد ذهب فدعوه، قال: ألم تستأذن؟ قال: بلى! ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع} واستأذنت ثلاثاًَ فلم يؤذن لي فرجعت.
فقال له عمر: فلتأتيني بالبينة على ما قلت الآن -انتهينا من قضية الاستئذان لكن بقينا في الكلام الذي نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع} تأتيني بالبينة وإلا لأفعلن بك، ولأفعلن -يهدده- فذهب أبو موسى رضي الله عنه فزعاً مذعوراً إلى ملأ من الأنصار، فقال: نشدتكم الله، هل سمع أحد منكم الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول كذا، وكذا.
قالوا: كلنا سمعناه.
فقال: إن عمر طلب مني البينة.
فقالوا: لا يقوم معك إلا أصغرنا، قم يا أبا سعيد فقام معه أبو سعيد الخدري، وقال لـ عمر: أنا أشهد أني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا استأذن أحدكم ثلاثا، فإن أذن له وإلا فليرجع} فقال عمر: [[خفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم]] ورجع يوبخ نفسه رضي الله عنه: [[خفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهاني عنه الصفق في الأسواق]] يعاتب نفسه، يقول: ألهاني عنه البيع والشراء، وعمر رضي الله عنه ما كان يشتغل بالبيع والشراء عن مجالسة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن هذا من باب التوبيخ للنفس.
ثم جاء أبي بن كعب وقال: [[يا ابن الخطاب: لا تكونن عذاباً على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم]] لماذا تفعل هذا بـ عبد الله بن قيس، أبي موسى؟ فقال: [[إنني لم أتهمه، ولكن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد]] .
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: [[كنت إذا حدثني أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلفته، فإن حلف لي صدقته، وقد حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: {ما من عبد يذنب ذنباً ثم يقوم فيتوضأ فيصلى ركعتين ثم يستغفر إلا غفر له} ]] والحديث رواه أحمد، وأصحاب السنن، وسنده صحيح.
وعلي رضي الله عنه كان إذا حدثه أحد من الصحابة يقول له: احلف بالله! فهو لا يتهم أي أحد من الصحابة، لكن من باب التثبت، والآن الواحد منا لو قال لإنسان خبراً، ثم أراد هذا الإنسان أن يتثبت من الخبر من مصدر آخر.
قال: -فلان هداه الله- أقول له ولا يصدقني! ليس هناك مانع، ليس المعنى أنه كذبك، لكن ربما تكون وهمت! ربما تكون نقلت عن إنسان ليس بثقة! الاحتمالات كثيرة، ولذلك من حقه أن يتثبت، وأن يتأكد من الأمر، ولا يعتمد على مجرد خبر واحد في أمور قد تكون مهمة.
والأخبار في ذلك كثيرة، ذكر الإمام مسلم طرفاً منها في مقدمة الصحيح، أذكر منها قصة بشير بن كعب العدوي رضي الله عنه تابعي، كان في مجلس ابن عباس رضي الله عنه فكان يقول بشير: حدثنا فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وكذا حدثنا فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وكذا يسرد أحاديث كثيرة، وابن عباس يسمع، ويقول: ارجع إلى أحاديث كذا، ارجع إلى أحاديث كذا، أي أن ابن عباس ينتقي أحاديث قليلة ويترك الباقي، فبعد قليل قال بشير بن كعب العدوي: يا ابن عباس هل كل حديثي صدقته إلا هذه الأحاديث؟! أم كل حديثي رددته إلا هذه الأحاديث؟ فبشير بن كعب العدوي كأنه ما ارتاح لهذا المسلك من ابن عباس رضي الله عنه، كأنه ما أعجبه.
فقال ابن عباس رضي الله عنه: [[إنا كنا زماناً إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، ورفعنا إليه رءوسنا- كأنه يقول: إننا نعظم حديث الرسول عليه الصلاة والسلام- فلما ركب الناس الصعب والذلول، وصاروا يتساهلون في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نأخذ من الناس إلا ما نعلم]] أصبحنا وإن سمعنا أحداً يقول: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) لا نقبل كل ما نسمع لا نقبل إلا الكلام الثابت الذي نعرفه من طريق الثقات الأثبات العدول.
ولذلك قال ابن سيرين أيضا -كما روى مسلم وغيره- قال: [[إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم]] الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، [[ولما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم]] ومن هنا نشأ علم الجرح والتعديل: فلان ثقة، وفلان ضعيف، وفلان متروك، وفلان كذاب، وفلان كذا؛ وفلان كذا، نشأ من أجل معرفة الرواة الثقات فيؤخذ حديثهم، ومعرفة الرواة الضعفاء فيطرح حديثهم، حتى كان شعبة يقول كما ذكر الخطيب البغدادي في الكفاية وغيره: اجلس بنا نغتب ساعة، فيجلسون فيقولون: فلان ضعيف، وفلان متروك، وفلان كذاب، وفلان وضاع، وفلان ثقة.
ومرة كان ابن أبي حاتم يروى بعدما صنف كتاب الجرح والتعديل، يروى فلان فيه، وفلان فيه، فجاء رجل وقال: يا ابن أبي حاتم ماذا تصنع؟ يا ابن أبي حاتم لعلك تتكلم في رجال قد حطوا رواحلهم في الجنة منذ مائتي سنة فبكى ابن أبي حاتم رضي الله عنه بكاءً شديداً، والواقع أنه ليس المقصود الكلام في هؤلاء الرجال، قد يكون رجلاً من أهل الجنة لكنه ضعيف الرواية، كما قال الإمام مالك: [[أدركت بالمدينة سبعين يستسقى بهم المطر من السماء لا آخذ عن واحد منهم حديثا واحداً]] فهم: ناس صالحون إذا أردنا أن نستسقي نقدمهم يدعون الله تعالى، كما قدم عمر، العباس ليدعو في الاستسقاء، لكن لا يؤخذ منهم الحديث، لأنهم ليسوا من أهل الحديث.
وكذلك قال أبو الزناد: [[أدركت بالمدينة مائة من الصالحين لا يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليسوا من أهله]] ليسوا كذابين، وإنما فيهم غفلة -غفلة الصالحين- وفيهم سذاجة، فيأخذون عن كل من هب ودب، فلا يؤخذ عنهم الحديث، فمن هنا نشأ علم الجرح والتعديل.
وكذلك نشأ علم التصحيح والتضعيف، ومعرفة ما صح مما لم يصح من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وشن العلماء حملة ضارية على رواية الأحاديث الموضوعة، وصنفوا في ذلك مصنفات كثيرة جداً، ليس هذا مجالها، بل سأخصص -إن شاء الله- درساً خاصاً عن الأحاديث الموضوعة، وعن الوضع في الحديث النبوي وأسبابه وما أشبه ذلك، ولكن المقصود أن العلماء كانوا يحذرون من ذلك، حتى إن ابن أبي حاتم يقول: سألت أبي عن رجل -سأل والده عن رجل- وهذا الرجل اسمه أبو مسروح شهاب، فقال أبو حاتم لولده: هذا ابن أبي مسروح لا أعرفه، ولكن يجب أن يتوب من حديث موضوع رواه عن الثوري، فبين أن رواية حديث موضوع إثم عظيم يجب التوبة منه، وصرح بذلك الذهبي وغيره من أهل العلم؛ أن رواية الأحاديث الموضوعة إثم عظيم يجب على من وقع فيه أن يتوب إلى الله تبارك وتعالى منه؛ لأنه نوع من الفرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لا يجوز رواية الحديث الموضوع إلا لبيان أنه موضوع، أما ما يتساهل به الناس من نقل الأحاديث الموضوعة في أبواب الترغيب، والترهيب، والوعظ وغير ذلك، فإن هذا من الإثم العظيم، وصاحبه خصمه يوم القيامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليبشر بالوعيد الشديد الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في مقدمة صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فإنه أحد الكاذبين} أي يظن أو يغلب على ظنه، أو يعلم من باب أولى أن هذا الحديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أحد الكاذبين، الكاذب الأول هو المفتري المختلق، والكاذب الثاني هو الراوي الناقل الذي نقل هذا الكلام وهو يعلم أو يظن أنه كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.