القسم الرابع من أقسام التثبت: التثبت في نقل أقوال الناس

أولاً: أقوال الناس لا يحرص الإنسان على نقلها إلا للحاجة، أما إذا كان على سبيل الإفساد فهو محرم، ولذلك جاء في الصحيحين من حديث حذيفة أنه كان في مجلس، فأقبل رجل، فقال بعض أصحابه: [[هذا الرجل الذي أقبل هذا ينقل الحديث إلى السلطان]] يعني أنه جاسوس يجلس معنا، وإذا سمع كلاماً نقله إلى السلطان، فلما جلس قال حذيفة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {لا يدخل الجنة قتات} وفي لفظ {لا يدخل الجنة نمام} فإن النمام هو الذي ينقل كلام الناس على سبيل الإفساد، فينقل كلام هذا لهذا، وكلام هذا لهذا، ويوغر الصدور ويفتري على الناس، أو ينقل كلامهم الصحيح، ولكن بغرض الإفساد.

وكذلك ينبغي للإنسان ألا يتسرع بنقل كل ما يسمع، ولذلك في مقدمة صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كفى بالمرء إثما أن يحدِّث بكل ما سمع} كفى بالمرء إثماً أي من عظمة الإثم وشدته أن يحدث بكل ما سمع، فإذا سمع كلاماً ذهب يتكلم به، قبل أن يعرف أهو صحيح أم غير صحيح، أحق أم باطل، أثابت أم غير ثابت، أنافع أم ضار، فهذا الإنسان جعل نفسه بوقاً فهو مثل الببغاء، يسمع كلاماً فيردده من دون تبصر ولا تثبت! وهؤلاء في الواقع من أخس الناس وأردئهم وأحطهم منزلة عند الله وعند خلقة، الذين جعلوا من أنفسهم مجرد مترجمين لأقوال الناس، إذا سمعوا قولاً نقلوه بغض النظر عن تمييزه، عن كونه حقاً أم باطلاً، صواباً أم خطأً، صدقاً أم كذباً، نافعاً أم ضاراً، المهم أنهم يملئون المجالس بالقيل والقال.

وفي مسلم أيضا عن عمر وابن مسعود أنهما قالا: [[بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع]] يعتبر هذا كذباً، لأن ناقل الكذب شريكٌ فيه، والناقل لا شك يحمل جزءاً من المسئولية، فـ عمر وابن مسعود اعتبرا من ينقل الكلام ويردد كل ما يسمع شريكاً وكاذباً.

ومن الطرائف التي تروى، وتنقل في هذا الباب، وهي عجيبة: أن رجلاً من الوشاة الذين ينقلون الكلام وشى بـ عبد الله بن همام السلولي إلى زياد، قال له: إن عبد الله بن همام السلولي يتكلم فيك، ويغتابك ويهجوك في المجالس.

فدعا زيادٌ عبد الله بن همام السلولي، وأخفى الرجل الواشي في مكان من المجلس، وقال لـ عبد الله بن همام السلولي: بلغني أنك هجوتني، فقال: عبد الله بن همام السلولي: ما فعلت أيها الأمير، ولست لذلك بأهل، أي: لست بأهل أن تهجى؛ فأنت رجل فاضل، ما هجوتك، ولست كذلك بأهل لأن تغتاب وتهجى، وتسب ليس فيك أمورٌ ظاهرة تسب فيها.

فأخرج الأمير الواشي الذي نقل الخبر، وقال له: أخبرني هذا -وجهاً لوجه- وهذا أمر جيد، فإذا تناقل اثنان كلاما فهاتهم في المجلس، وقل: يا فلان! فلان يقول عنك: (كذا، وكذا) أهذا صحيح أم لا؟ وكما قال المثل: إذا تخاصم اللصان ظهر المسروق، إذا التقوا وأحرجوا، بان الكاذب من الصادق، فإما أن يقول هذا والله أنا أخطأت وكذبت، وإن شاء الله أعتبر هذا درساً لي وتوبة، وإما أن يصر ويقول أنا فعلاً سمعته ويعترف بذلك الآخر.

فلما أظهر هذا الرجل، وقال: إن هذا الرجل أخبرني، نظر عبد الله بن همام السلولي في الواشي ساعة ثم أطرق رأسه، وقال له: وأنت امرؤٌ إما ائتمنتك خالياً فخنت وإما قلت قولاً بلا علم لاحظوا الخيار: وأنت امرؤ إما ائتمنتك خاليا فخنت، إما أن الأمر بيني وبينك أمانة سر فخنتها، وإما قلت قولاً بلا علم أي كذبت عليَّ.

فأنت امرؤ إما ائتمنتك خاليا فخنت وإما قلت قولاً بلا علم فأنت من الأمر الذي كان بيننا بمنزلة الخيانة والإثم فأعجب زياد بمنطق عبد الله بن همام السلولي، وأدناه وقربه وجعله من خاصته، وطرد هذا الواشي وأبعده.

وكذلك ما يتعلق بالتثبت من أقوال الناس، يدخل في ذلك التثبت من أحوالهم، فأنت مثلاً: قد تحتاج لمعرفة حال شخص من كونه غنياً، أم فقيراً، صالحاً، أم طالحاً، حليماً، أم غضوباً، وغير ذلك، فتحتاج أن تتثبت من الأمر، ولا تقبل فيه أي كلام، افترض أن رجلاً خطب منك يريد أن يتزوج، تأتي وتسأل أي إنسان فيقول لك: والله يا أخي! فلان هذا فيه، وفيه، وفيه، وقد يكون خصماً له، وقد يكون يبغضه في ذات الله فكرهه، وقال فيه ما قال فلابد من التثبت من أحوال الناس.

ومع الأسف -أيها الإخوة- أن السلف رضي الله عنهم كان منهجهم التثبت في كل شيء، حتى إن الخطيب البغدادي -وهذه من الطرائف- وغير الخطيب أيضاً فكل العلماء كانوا ينقلون الروايات، والطرائف، والنكت ينقلونها بالأسانيد، وهي عبارة عن نكت ما يقصد منها إلا أن يضحك الناس! اقرأ مثلاً كتاب تاريخ بغداد، أو كتاب التطفيل للخطيب البغدادي، أو غيره تجده ينقل النكت والطرائف: قصص أشعب، وقصص فلان، وقصص علان، ينقلونها بالأسانيد: حدثنا فلان، حدثنا فلان، حدثنا فلان أن أشعب مثلا دعاه رجل فقال: لا آتي إليك، فأنا أعلم أنك تجمع خلقاً كثيراً، أي إذا دعوت إلى مأدبة تجمع خلقا كثيراً وأشعب لا يريد الكثرة في المجالس، يريد على الانفراد ليكون أعظم للفائدة! فقال: أنا أعرف أنك رجل جموع أي إذا عزمت تجمع كثيراً، قال: أبداً لا أدعو غيرك، قال: فلما جلس المجلس، إذا بصبي يدخل في هذا المجلس، فقال أشعب لصاحب البيت: يا أبا فلان! هلمَّ إلىَّ، فجاء وجلس إلى جواره قال: ما عندك يا أبا العلاء؟ قال: ما هو الشرط الذي بيننا؟ قال: ألَّا أدعوَ أحداً، قال: فما هذا الصبي الذي دخل؟ قال: هذا ولدي رحمك الله، وفيه عشر خصال لا توجد في صبي: أولها: أنه ما أكل مع ضيف قط -هذه الخصلة الأولى: أنه ما أكل مع ضيف قط- قال له: كفى، كفى رحمك الله التسع الباقية لك! هذا الشاهد أنه يروى طرائف من هذا النوع، لا يقصد منها إلا إضحاك الناس، يرويها بالأسانيد: هذا ضعيف، وهذا صدوق! والناس اليوم قد يعتمدون على أمور عظيمة، قد يتكلم الواحد منهم بمثل ما ذكرنا في عالم من العلماء، أو داعية من الدعاة، أو مصلح من المصلحين، أو مجاهد أو شخص له بلاؤه في الإسلام وصدقه، وسابقته، فيروى عن الضعفاء، والمجاهيل، والكذابين، والمتروكين، بل قد يقول كلاماً بلا إسناد: فلان فيه كذا وكذا، هل رأيته؟ لا! -هل سمعته؟ - لا! -التقيت به؟ - لا.

من أين هذا الكلام؟! هذا مفارقة عظيمة بين ما كان عليه السلف من التورع، والتثبت في نقل الكلام حتى في أمور قد تكون أحياناً لا قيمة لها، وبين ما عليه واقع الناس اليوم من قبول كلام أي قائل بدون تبصر ولا تثبت.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015