ولعلي أذكر لكم قصة شهيرة معروفة، وهي قصة رجل كان يقال له عبد الله القصيمي، وكان هذا الرجل يعيش زمناً طويلاًً في بلاد نجد يجالس العلماء ويقرأ عندهم، وربما مشى وصحيح البخاري في إبطه، وربما حضر مجالس العلم والذكر، وكان معروفاً حتى أنه ألف كتباً كثيرة ينصر فيها الحق، ومن هذه الكتب كتاب مشهور مطبوع في مجلدين اسمه: الصراع بين الإسلام والوثنية وهو رد على أحد الشيعة الذين سبوا وذموا دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، فرد عليه عبد الله القصيمي بهذا الكتاب الصراع بين الإسلام والوثنية وقال بعض طلبة العلم آنذاك: لقد دفع عبد الله القصيمي مهر الجنة بهذا الكتاب، ثم انتكس الرجل وارتد وأعتقد والله أعلم أن ردته وهي ردةً كلية وصلت في فترة من الفترات إلى درجة الإلحاد المطلق، بل والكفر حتى بجملة الرسالة، والكفر بالأمة التي أنزل عليها الإسلام، وهي أمة العرب، فرفض الإسلام ورفض العرب.
ولم يكن كفره لشبهة بقدر ما كان كفره لشهوة خفية متأصلة في أعماق قلبه، هذا هو ما توصلت إليه بعد طول تأمل في حال هذا الرجل؛ وهذا درس يجب أن نعيه؛ فلم تكن القضية قضية شبهة أو شك أو إلحاد حقيقي، إنما كان هذا الإلحاد ستاراً يتستر به أو مسوغاً يسوغ به الواقع الذي يعيشه، أما الحقيقة -والله تعالى أعلم- الذي يبدوا أن الرجل إنما ارتد بسبب شهوة؛ ما هذه الشهوة؟ إنها شهوة العظمة، حتى إن هذا الرجل كان يقول في شعره: ولو أن ما عندي من العلم والفضل يوزع في الآفاق أغنى عن الرسل هذا البيت قرأته في كتاب أحد العلماء الذين ردوا عليه، ثم قلت في قلبي: هل من المعقول أن يقول إنسان مثل هذا الكلام؟! وإذا بي أقف على كتاب مطبوع من كتب القصيمي التي ألفها قبل أن يرتد، ألفها يوم كان يزعم أنه مهتدٍ، وهو كتاب اسمه الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم فوجدت هذا الرجل يتغزل بنفسه ويعظم ذاته، ويتكلم عن نفسه كلاماً يستغرب الإنسان أن يسمعه بعنوان (أسى) يقول: ولو أنصفوا كنت المقدم في الأمر ولم يطلبوا غيري لدى الحادث النكر ولم يرغبوا إلا إلي إذا ابتغوا رشاداً وحزماً يعزبان عن الفكر ولم يذكروا غيري متى ذكر الذكاء ولم يبصروا غيري لدى غيبة البدر فما أنا إلا الشمس في غير برجها وما أنا إلا الدر في لجج البحر بلغت بقولي ما يرام إلى العلى فما ضرني فقد الصوارم والسمر وما ضرني ألا أروح واغتدي باردان مجدود على سابح يثري ثم يقول: أسفت على علمي المضاع ومنطقي وقد أدركا لو أدركا غاية الفخر أرى كل قوم يحفظون أديبهم ويجزونه بالعز والمال والشكر إذاً الرجل يشكو نفسه وحاله، ويرى أنه مضيع في أمته وقومه وقبيلته: فلا خلى معشري ما عندهم لأديبهم سوى الحسد الممقوت والبغض والهجر إذا قام فيهم ناشئ ذو مخايل تدل على العلياء والحسب الحر أطاحوه غضاً قبل أن يبلغ المدى وقاموا على أعواده الخضر بالكسر إلى آخر القصيدة التي أصبح يتكلم فيها عن واقع الناس كلام الذي يتسخط فيها على قضاء الله وقدره، ويرى أنه كان جديراً وحقيقاً بكل خير، وأن الأقدار ما أنصفته، وهذا هو الذي كان يقوله الأول: كم عالمٍ عالمٍ ضاقت مذاهبه وجاهلٍ جاهلٍ تلقاه مرزوقا إذاً: هذا الرجل الذي تحول من التظاهر بالإيمان إلى التطاول على الله تعالى والسخرية به، وازدراء القيم، والعقائد، والمثل، والأخلاق، إنما يعيش ردة فعلٍ عن المجتمع الذي عاش فيه ولم يلب طموحاته الشخصية، ولم يكن متوافقاً مع متطلباته الذاتية، فكانت النتيجة أن تحطم هذا الرجل، ثم ترك الإيمان والإسلام -والعياذ بالله- وذهب يبحث لنفسه عن شهرةٍ ومجدٍ في الكفر والإلحاد.