ترك الاعتداء في الدعاء

هذا أدب عظيم أخل به كثير من الناس، ولذلك سوف أبسط الحديث عنه بعض البسط لا كله، فلذلك الله عز وجل يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] .

المعتدين يعني: في الدعاء وفي غيره، فالاعتداء يكون في الدعاء وفي العبادة وفي غيرها، وقد سبق في حديث سعد بن أبي وقاص، وابن مغفل، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه: {سيكون في هذه الأمة أقوام يعتدون في الدعاء} والاعتداء: هو أن يتعدى الإنسان الحد المشروع في الدعاء، كالجهر الكثير والصياح ورفع الصوت بما لا داعي له، خاصة ونحن نجد في هذا العصر مكبرات الصوت، فأحياناً تجد في بعض البلدان إذا كانت صغيرة تجد مكبر الصوت يرفع الدعاء فيسمعه أهل البلد في كل مكان، وهذا الداعي يزعق بالصياح والبكاء، ورفع الصوت بالدعاء، بحيث إنه يسمع من لا حاجة لهم به كمن يكونون مشتغلين مع إمام آخر، أو مشتغلين بصلاة أو بذكر أو بغير ذلك، وهذا يحدث من الأضرار ما هو معلوم، فهذا من الاعتداء خاصة إذا كان صاحبه ذا صوت مرتفع وهذا شيء لا داعي له.

ومن الاعتداء في الدعاء: الدعاء بالمحال، كأن يدعو الإنسان ربه أن يبلغه منازل الأنبياء؛ لأنه لا يمكن أن يبلغ العبد منزلة نبي من الأنبياء، أما منازل الصديقين ومنازل الشهداء ومنازل الصالحين فلا بأس، كذلك أن يدعو الإنسان بالخلود لنفسه أو لغيره، كبعض الناس المتملقين إذا كانوا أمام سلطان أو حاكم أو خليفة أو ملك أو رئيس دعوا له بدعوات منها: خلد الله ملكك، ونحن نقرأ اليوم في بعض الكتب القديمة عن حكام قد ماتوا أو انقرضوا وبادوا وأكلت الأرض أجسادهم، وتجد بعض الناس كان يقول: فلان خلد الله ملكه، لا يخلد إلا مُلْكُ الواحد الباقي جل وعلا، أما ملك المخلوقين فهو وهم إلى زوال.

وكذلك من الاعتداء في الدعاء: أن يدعو الإنسان بأمور دنيوية تفصيلية، لا داعي لها -كما سبق- فهذا يخالف الدعاء الجامع، كأن يقول الإنسان: اللهم إني أسألك بيتاً في الحي الفلاني، مكوناً من كذا طابق، سعة الشارع الذي فيه البيت كذا وكذا، اللهم إني أسألك سيارة موديل كذا وكذا، صفة السيارة كذا وشكلها كذا، هذا كله من الاعتداء في الدعاء، ومثله: أن يسأل الله زوجة صفتها كذا، وطولها كذا، وشكلها كذا، ولونها كذا، وشعرها كذا، هذا كله من الاعتداء في الدعاء، وكذلك إذا دعا على قومٍ أو دعا لقومٍ فإنه يفصل في هذا الدعاء، -مثلاً- بعض الناس إذا دعا على أحد من الظالمين والفاسقين والكافرين دعا عليه دعاء تفصيل؛ بإن يفعل الله بعيونه كذا وبرأسه كذا ويجدع أنفه، ويقطع أذنه، ويصيبه بكذا وكذا من الأمراض، ويبدأ يدعو بدعوات تفصيلية ممجوجة، ليس لها مكان، لماذا لا يدعو الله عز وجل على هذا الإنسان بالهلاك وكفى؟! لماذا هذا التفصيل الذي يعتبر من الاعتداء في الدعاء؟! وكذلك لو دعا لأحدٍ فإنه قد يدعو بدعاء فيه تفصيل لا داعي له، فالصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم تعلموا في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون بالدعاء الجامع، حتى إذا دعوا على أحد اختصروا.

من ذلك قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وكان أميراً على الكوفة فشكوه إلى عمر فأرسل عمر لجنة تقصي حقائق فكانت هذه اللجنة تنزل في كل مسجد من المساجد، ويسألون أهل المسجد ما رأيكم في أميركم سعد بن أبي وقاص؟ قالوا: والله ما نعلم إلا خيراً، فلما جاءوا إلى مسجد بني عبس قام رجل اسمه أسامة بن قتادة وقال: أما إذ سألتنا فإن سعداً كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية.

يريد أن يقول أنه ظالم، ويُفَضِّل بعضنا على بعض، وأنه جبان، فهكذا اتهمه، فقام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وقال: اللهم إن كان عبدك هذا قام رياء وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن.

فدعا عليه بدعوة جامعة، فطال عمر هذا الرجل حتى سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وافتقر حتى كان يتكفف الناس في الأسواق -نسأل الله السلامة- وأصيب بالفتن حتى كان يجلس في الشوارع يتعرض للجواري ويغمزهن، وإذا قيل له ذلك قال: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، فالتفصيل في الدعاء لأحد أو على أحد أو الدعاء للنفس أو للغير هذا من الاعتداء في الدعاء.

ومن الاعتداء في الدعاء: أن يدعو الإنسان بتيسير معصية، أو يدعو على نفسه أو أهله أو ولده أو ماله بشر، كما سبق، يقول الله عز وجل: {وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء:11] ولذلك جاء التقييد في الأحاديث {أن الله عز وجل يجيب العبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم} .

ومن الاعتداء في الدعاء، -وهذا أمر قد عم وطم وفشا مع الأسف الشديد بين الناس كباراً وصغاراً شيباً وشباناً-، أن كثيراً من الناس قد أولعوا بالدعاء بألفاظ مفقرة فقرات، وكلمات مسجوعة، وأدعية منكرة، اخترعوها من عند أنفسهم، أو وجدوها في كراريس أو كتب أو رسائل؛ ما أنزل الله بها من سلطان، ولا أصل لها من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى، ولا معول عليها، فجعلها هؤلاء الناس شعاراً لهم، واستعاضوا بها عما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم، أو عما أخبرنا الله عز وجل من أدعية الأنبياء والصالحين ونحوهم.

وهذا كله قد يمنع إجابة الدعاء كما ذكره القرطبي، ولذلك تعجبني كلمة قالها الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين يقول: الأولى ألا يتجاوز الدعوات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قد يعتدي في دعائه فيسأل ما لا تقتضيه مصلحته، فما كل أحد يحسن الدعاء، لذلك روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان يقول: [[إن العلماء يحتاج إليهم حتى في الجنة، قالوا له: كيف يا أبا عبد الرحمن! يحتاج إليهم حتى في الجنة؟!.

قال: نعم.

إذا قيل لأهل الجنة: تمنوا.

لم يدروا ماذا يقولون، حتى يسألوا العلماء فيخبرونهم ماذا يتمنون]] .

وهذا دليل على أنه ليس كل أحد يحسن الدعاء ويحسن الأمنية، فينبغي على الإنسان أن يقتصر على الدعاء المأثور، ولذلك نقل الأثرم عن أحمد رضي الله عنه أنه قال له: (ماذا أدعو به في صلاتي؟ قال: تدعو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث كما في الصحيح {ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه} قال: نعم.

يتخير مما ورد) يعني مما ورد سواء بلفظه أو بمعناه؛ لأن الأدعية غير متعبد بألفاظها فليست كالقرآن أو كبعض الأذكار، فإن حفظت اللفظ دعوت باللفظ، وإذا لم تحفظه بلفظه دعوت بالمعنى، فتدعو بالخير، وبالجنة، وبالنجاة من النار، وما أشبه ذلك، فلا ينبغي للإنسان أن يتوسع في تلك الأدعية، والأشياء التي لم يكن لها أصل ولا نقل، ولذلك فإن الاقتصار على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم هو السلامة في ذلك لفظاً أو معنى.

ومن الاعتداء في الدعاء -أيضاً-: الإطالة في الدعاء بما يتضمن المشقة على الداعي، وعلى المؤمّن، وسآمته، وتفرق قلبه عن الدعاء، فضلاً على أن من يطيلون في الدعاء لا بد أن يخرجوا عن الدعاء المأثور إلى غيره فيقعون في المحظور السابق، خاصة أن كثيراً من الناس لا يحسنون الدعاء، وقد يأتي الواحد منهم بألفاظ غريبة ومعانٍ منكرة، ومن هذه الألفاظ والمعاني المنكرة ما نقله الإمام الخطابي في كتابه شأن الدعاء: (أن أعرابياً رفع يديه إلى السماء يستسقي؛ وقال: رب العباد ما لنا ومالك، قد كنت تسقينا فما بدا لك) وهذا رجل فيه عجرفة وتهور وعدم فهم وعدم علم، ولذلك دعا بهذه الدعوة، وكذلك ما نقله الخطابي رحمه الله أيضاً: (أن رجلاً من قريش، لما هدموا الكعبة، خرجت حية عظيمة، فخاف الناس منها، فقام شيخٌ كبير من قريش وقال: (اللهم لا ترع، اللهم لا ترع، اللهم ما أردنا إلا حماية بيتك وحياطة حرماتك)) وهذا أيضاً لا يليق؛ لأن الله عز وجل لا يخاف سبحانه وتعالى، وإنما الخوف يكون للعبد العاجز الضعيف الجاهل، فقوله (اللهم لا ترع) ليس له وجه، وإنما هو من الجهل، ومثل ذلك يقع فيه كثير من الناس.

ومن الاعتداء في الدعاء: تسمية الله عز وجل بأسماء لم تثبت لا في الكتاب ولا في السنة، مثل ما يقوله بعض العوام حين يقول: يا سبحان يا سبحان، يا برهان، يا سلطان، مثلاً، فإن هذه الأدعية ليس لها أصل في الكتاب ولا في السنة، ومثل قول بعضهم: يا غفران، فإن العبد إذا أراد أن يسأل الله عز وجل غفرانه، فإنه يسأل بغير هذا فيقول: يا غفور اغفر لي -مثلاً- أو يا غفور أسألك غفرانك، وكذلك مثل قول بعضهم: يا رب طه وياسين، ويا رب القرآن العظيم، فإن هذا غير سليم، وغير صحيح، وقد ذكر الخطابي أن ابن عباس أنكره على من قاله؛ لأنه قد يوهم أن القائل يعتقد أن القرآن مخلوق، والقرآن كلام الله عز وجل منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وعلى كل حال فالاعتداء في الدعاء أمره يطول وأكتفي بما ذكرت.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015