السبب الثاني من أسباب الصمت: الخوف من الناس، فبعض الناس يسكت خوفاً من الناس، فلا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، ولا يقول كلمة الحق، ولا يصدق خوفاً من الناس، وهذا موجود عند المتقدمين والمتأخرين، ويذكر أن إسماعيل بن سهل قال لرجل: ألا أذكر لك بيت من الشعر، يساوي عشرة آلاف درهم، فقال: عجيب بيتاً شعر يساوي عشرة آلاف درهم!! قال: نعم أيهما أغلى عليك؟ نفسك أم عشرة آلاف درهم؟ قال: لا، نفسي أغلى عليَّ من عشرة آلاف درهم، قال: إذاً هذا البيت فيه حفظ نفسك، ثم تلا قول الشاعر: اخفض الصوت إن نطقت بليلٍ والتفت بالنهار قبل المقالِ ليس في القول رجعةٌ حين يبدو بقبيحٍ يكون أو بجمالِ يعني: أن الإنسان يخاف أن يقول كلام، فينقل إلى غيره فيكون فيه حتفه، يعاقب بسجنٍ أو عقوبةٍ أو قتلٍ أو ما أشبه ذلك من العقوبات، فهؤلاء خافوا من المخلوقين، فامتنعوا من الكلام، وهذا في الإسلام ليس مطلوباً على الإطلاق، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {أفضل الشهداء -وفي رواية- سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجلٌ قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله} وفي الحديث الأخر -حديث طارق - يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: {أفضل الجهاد كلمة عدلٍ وفي لفظ كلمة حق تقال عند سلطانٍ جائر} فكلام الحق إذا تطلب المقام أن يقال فإنه يقال، ولو ذهبت روح الإنسان معه، فهو إن شاء الله شهيد في سبيل الله.
فالصمت ليس محموداً دائماً، بل قد يكون محموداً وقد يكون مذموماً، فإن كان الصمت لا يفوت خيراً ولا رشداً، ولا يجلب مضرة، فإنه حسن، لأن فيه حماية ووقاية للإنسان من أن يقتل أو يصاب أو يؤذى، فلا حرج في ذلك، لكن إن كان صمته سبباً في فوات بعض الخير، أو حصول بعض الشر، فإنه لا يجوز له حينئذٍ؛ ولذلك أذكر قصة وقعت لـ رجاء بن حيوة، رحمه الله وهو من فقهاء التابعين، فقد جاء رجل إلى الخليفة، وقال له: إن فلان يسبك، ويقع فيك ويشتمك، فغضب الخليفة على هذا الرجل غضباً عظيماً، ودعاه إليه في مجلسه، وأحضر السيف يريد أن يقتله، وكان رجاء بن حيوة وزيراً للخليفة جالساًَ عنده، فلما جاء الرجل خاطبه الخليفة، وقال: لماذا تسبني وتقول في وفي، قال: ما فعلت، قال رجاء بن حيوة: أنا أشهد أنه ما فعل، وأنا كنت معه في ذلك المجلس، والله ما قال فيك كلمةً واحدة، والذي حدثك كاذب، وهو مغرض، بينه وبين هذا عداوة، ويريد أن يوقع به، فغضب الخليفة على الجاسوس، الذي أخبره بالخبر، ودعا بإحضاره وجلده مائة جلدة، فخرج الجاسوس، وفي يوم من الأيام، مر ووجد رجاء بن حيوة في الشارع، وكانوا حاضرين في مجلس، فحصلت غيبة وكلام في السلطان فقال الجاسوس لـ رجاء بن حيوة: يا رجاء بك يستسقى المطر من السماء، ومائة سوط في ظهري، يعني أنا أجلد مائة جلدة، وأنت تعرف أني صادق، فقال له رجاء بن حيوة: والله! مائة سوط في ظهرك، خير من أن تلقى الله بدم امرئ مسلم، يقتل فتلقى الله تعالى وأنت مسئول عن دمه، فهنا لا يجوز الصمت خوفاً من المخلوق، بل يجب على الإنسان أن يتكلم بكلمة الحق، ولا يخاف إلا الله عز وجل.
يُقالُ أن الأحنف بن قيس التميمي كان في مجلس معاوية رضي الله عنه فتكلموا في أمر من الأمور، فأفاضوا كلهم في الحديث، إلا الأحنف لم يتكلم، فقالوا له: لماذا لا تتكلم؟ قال: إن تكلمتُ فقلت الحق، أخافكم، وإن قلت غير الحق، أخاف الله، فآثرت الصمت، لأنني لا أرى مصلحة في الكلام، فالكلام الباطل الكذب لا يمكن أن أقوله خوفاً من الله، والكلام الحق الذي أعتقده لا أريد أن أقوله خوفاً منكم، وليس هناك ضرر في فوات هذا الحق فسكت عنه.