العي والعجز عن النطق

إن الناس يصمتون لأسباب كثيرة، فبعض الناس يصمت بسبب العيِّ والحصر كما قال النمر بن تولب: أعذني ربي من حصرٍ وعيٍ ومن نفسٍ أعالجها علاجاً بعض الناس فيه صعوبة في النطق، فلذلك يسكت عجزاً لا ورعاً ولا تقوى، ولذلك يقول أحيحة بن الجولاح: والصمت أجمل بالفتى ما لم يكن عيٌ يشينه يقصد أن الصمت حسن وجيد، ما لم يكن سبب الصمت العي والحصر والعجز عن النطق وعن الكلام، فحينذٍ لا شك أن هذا عجز ونقص، يعاب عليه الإنسان، ولذلك دعا موسى ربه أن يفك ويحل عقدته، فقال: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:27-28] .

والظاهر أن الله تعالى أجاب موسى؛ لأنه قال تعالى في آخر الآيات: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36] .

فأجاب الله تعالى دعاءه، وحل هذه العقدة من لسانه، ولذلك فإن قول فرعون الخبيث كما حكى الله عنه: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] .

هذا من خبثه، وكذبه، فإن موسى عليه السلام حل الله تعالى عقدته فأصبح بيناً فصيحاً يفقه قوله، ويفهم ويعلم، لكن فرعون يعرفه منذ طفولته، ويذكر أن به عقدة في لسانه، فسبه بأنه لا يكاد يبين، أي لا يكاد يفصح عما يقول، ولذلك فإن العي عيب.

ويروى أن بذر جمهر وهو أحد حكماء الفرس قيل له: أي شيء أستر للعي؟ أي إذا كان الإنسان فيه عي وصعوبة في النطق، أي شيء أستر له؟ قال: العقل؛ فالعقل يستر عيَّه؛ لأنه إذا تكلم ولو كلمات معدودة صعبة فإنها تنم عن عقل، قالوا: فإن لم يكن له عقل؟ قال: فمال يستره؛ لأن الإنسان إذا أعطى وكان كريماً جواداً نسي الناس عيوبه، قيل: فإن لم يكن له مال؟ قال: فإخوان ينطقون عنه، -فيكون له أصحاب ينطقون عنه، ويبينون مراده- قيل: فإن لم يكن له إخوان ينطقون عنه، ويبينون مراده؟ قال: فصمت يزينه، -يحلي نفسه بالصمت، لئلا يدرى ما وراءه- قالوا: فإن لم يكن له صمت؟ قال: فقبر يواريه، إذا كان عنده صعوبة في النطق، ومع ذلك لا عقل ولا مال ولا أصحاب ولا صمت، فالموت أولى به.

وكذلك نقل الجاحظ في كتاب البيان والتبيين، في مواضع كثيرة، -فـ الجاحظ تسلط في الواقع على من بهم عيايه- في هذا الكتاب نقل من نوادرهم وطرائفهم وأخبارهم، الشيء الكثير والطريف، ولكنني لا أستحل ولا أستجيز نقل كثير مما قال؛ لأن الرجل في الواقع قبيح المنطق، ورديء الدين، ورقيق العرض، ولذلك ينقل ما هب ودب، وينحط فيما يروي وما يقول، فلا أرى نقل مثل هذه الطرائف والغرائب، التي في كتاب البيان والتبيين.

وأنبه الإخوة ممن يقرءون لهذا الرجل أن يتفطنوا إليه؛ لأن الرجل كان فيه اعتزال، ورمي بالزندقة، وفي كتبه خبث ظاهر، والله تبارك وتعالى يتولى السرائر، المهم أنه ذكر من الأشياء التي ذكرها ولا مانع من إيرادها، ذكر أن رجلاً دعا لرجل، فقال: أبقاك الله، وأطال الله بقاءك، وأمد الله في عمرك، فهذا من العي لأن هذه الدعوات الثلاث، معناها واحد، وقال رجل آخر لقوم: أنتم يا قوم لا صبحكم الله إلا بالخير، ولا حي وجوهكم إلا بالسلام وهذا من الكلام الذي هو حق في ذاته لكنه ليس مناسب أن يقال؛ لأن ظاهره الدعاء عليهم، وهو يريد أن يدعو لهم، لأنه إذا قال: لا صبحكم الله، خافوا أن يكون قد دعا عليهم، وإذا قال: لا حياكم الله، خشوا كذلك، وقيل لرجل من الأزد: متى ولدت؟ فقال: أكلت من عمر النبي صلى الله عليه وسلم سنتين، يقصد أنه ولد في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض الحضور: لا هنيئاً هذا الذي أكلته! ويقال: إن رجلاً والياً باليمامة خطب بالناس، فقال لهم: إن الله تعالى لا يقر أصحاب المعاصي على معاصيهم، ألم تعلموا أن الله عز وجل أهلك قوماً بناقةٍ لا تساوي مائتي درهم، فضحكوا عليه؛ لأنه ماذا يدريه عن الناقة تساوي أو لا تساوي، وصاروا يلقبونه بمقوم ناقة الله، لأن هذه الناقة ليست القضية أنها تساوي مائتي درهم، أو أقل أو أكثر، القضية أنها ناقة بعثها الله عز وجل آية كما قال تعالى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:155-156] .

فإذا كان السكوت بسبب العي، فإنه لا يحمد، ولا يمدح، وإن كان خيراً من المنطق؛ لأنه إذا تكلم زاد عجزه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015