الأنظمة الدراسية وسائل فمثلاً وقت الحصة المدرسية, أو المنهج الدراسي, أو دفتر التحضير, أو ما سوى ذلك من الأمور التي ترتب عملية التدريس, كل هذه الأشياء وسائل, وما دامت تحقق الهدف المنشود, فلا شك أن العمل بها واجب, والتساهل في هذه الأمور يفتح باباً واسعاً للكثيرين الذين تضعف نفوسهم عن القيام بالواجب, فلا شك أن هذه الأشياء في جملتها ودون الدخول في التفاصيل, ذات دور فعال في الضبط الإداري العام, والمحافظة على النظام.
لكن ينبغي أن ندرك أن هذه الأنظمة -كما أسلفنا- وسائل إلى غايات, فإذا رجعت هذه الأنظمة على الغايات بالنقص, وكانت تضر بها, كان العمل بها حينئذٍ نوعاً من الشكلية والالتزام بالحرفية في مثل هذه الأمور القابلة للاجتهاد, فماذا يعني حضور المدرس للمدرسة بدون عمل؟! أنت مطالب بالحضور, وليس أمامك عمل تكلف به، فإما أن أحضر لتكلفني بعمل, وأما أن أحضر لأضيع وقتي دون جدوى, فإن هذا لا يمكن أن يكون نظاماً, ولا يمكن أن يكون واجباً شرعياً في عنق الإنسان.
إذاً المهم هو ضبط الدرس أو المحاضرة, وعدم تضييع شيء منها, كذلك لا بد من مراعاة الظروف, مثلاً: ظروف الجو، شدة الحرارة أو شدة البرودة, فإن هذه الأشياء لا يمكن مراعاتها في النظام, فإن النظام جامد أحياناً؛ لأنه عبارة عن قواعد عامة مجملة، لا يمكن أن تراعي التفاصيل.
ولكن ينبغي أن تراعى هذه الأمور في المجال العملي التطبيقي بما لا يخلّ بالعمل التربوي, فليست الحصة الأولى كالحصة الأخيرة, ولا التدريس في وقت الاعتدال مثل التدريس في وقت البرد الشديد أو الحر الشديد, ولا التدريس في الظروف الطارئة كظروف الحرب -مثلاً- كالتدريس في ظروف السلم, وهكذا لكل حالة أوضاعها التي ينبغي أن توضع في الاعتبار.
أما أن نأخذ النظام على أنه حرفي بالدقائق، لا بد أن تدخل, ولابد أن تخرج, وغير ذلك , فإن هذا يعني مسخ شخصية الإنسان ودوره.
إن المشكلة ليست في وجود النظام بذاته, فالنظام يُحتاج إليه وقابل للتعديل, لكن المشكلة أن تتحول العملية التربوية كلها إلى مجرد تمثيل مظهري للأنظمة, بمعنى: أنني أطمئن بأن المدير لا يستطيع أن يؤاخذني بشيء, وأن الموجه لا يستطيع أن يعاتبني على شيء, فإن البقية إذاً لا تعنيني, إن المسئولية خطيرة أن يصبح اهتمامنا سواء أكنا إداريين أم موجهين أم مدرسين, مقصوراً على الأمور الإدارية الشكلية التي هي في الواقع ليست إلا وسيلة وذريعة وسبباً لتنظيم العلم والتعليم والدراسة.
وإنني أتعجب لك أيها المدرس! نعم أتعجب لك! فنحن منحناك أثمن ما نملك, عقول طلابنا, وقلوبهم تنفرد بها وتملؤها بما شئت, وهي ثروة الأمة ورأس مالها, فإذا أغلقت عليهم باب الفصل, فأنت حينئذٍ آمن, تقول لهم ما شئت دون حسيب أو رقيب إلا الله تعالى, لقد أمنَّاك على هذه الثروة العظيمة, فلماذا لا نأمنك على ما دون ذلك؟ ألم نأمنك على جزء من الوقت, أو على بعض الأمور التنفيذية التفصيلية, أو على بعض الإجراءات الشكلية المظهرية؟! وأصبحنا نطالبك بأمور مظهرية دون أن نتأكد عن مدى نجاحك في العمل الأصلي, والهدف الأصلي الذي هو صياغة عقول الطلاب وقلوبهم, والتأثير عليهم, وبناؤهم بناءً شرعياً صحيحاً, إنها مشكلة كبيرة أن نغفل عن الهدف الأساسي للتعليم كله, الذي هو بناء الأجيال, ويكون كل همنا: كمدير, أو موجه, أو مسئول, أو مدرس, هو فقط هذه الأشياء الشكلية.
نعم قد تجد مدرساً أو مُدَرِّسة قد أعد دفتر التحضير أحسن ما يكون الإعداد ورسمه وسطره, ولونه وكتب فيه, ثم تجد هذا المدرس محافظاً على الحضور, وعلى التوقيع في وقته, ثم تجد هذا المدرس ملتزماً بكل الأوامر والتعليمات, ولاشك أن هذه الأشياء أمور طيبة ومطلوبة.
لكننا لم نبحث عما وراء ذلك, هل أفلح هذا المدرس في بناء الطلاب بناءً سليماً؟ هل بنى أخلاقهم؟ هل أصلح دينهم؟ هل أعدهم إعداداً صحيحاً للمستقبل ديناً ودنيا؟ حتى مستقبلهم الدنيوي نفسه هل أعدهم لمواجهة الحياة وصعابها ومشاكلها بالوسائل المكافئة لذلك؟ أم أننا قد وقف دورنا عند هذا الحد, عند مجرد الاقتناع بأن المدرس قام بهذه الأشياء المظهرية الشكلية, ثم لم نبحث عن أي أمر آخر وراء ذلك! إننا بين طرفي نقيض, بين طرف يهدر جميع الأنظمة والقرارات, ولا يقيم لها وزناً, وأقول: لو أن الناس كلهم كانوا على درجة من التقوى والورع والإخلاص, لكان من الممكن أن نتساهل في هذه الأمور, أما والغالب على الناس خلاف ذلك فلا.
أما الطرف الثاني: فهو حصر مهمته في ضرورة تنفيذ هذا النظام أو ذاك, حتى ولو كان تنفيذه أحياناً يؤثر ويخل بالعملية التربوية, وكأنه وحي, مع أن هذا النظام الذي يعمل به في هذا العام من السهل أن يغير في العام القادم.