الهزيمة النفسية ودورها في الحروب

تقول التقارير الأمريكية نفسها: إن أكثر من (15%) من الذين شاركوا في عاصفة الصحراء كما يسمونها، يعانون اليوم من أزمات نفسيه حادة! حتى إن الكثير منهم ربما كان نتيجة المعاينة الطبية لهم أن يسرحوا من الخدمة، نعم أكثر من (15%) يعانون من أزمات نفسية حادة لمجرد أنهم سمعوا أزيز الطائرات، وسمعوا أصوات المدافع، وسمعوا طبول الحرب، فما بالك لو كانت حرباً حقيقية واجهوا فيها أي شعب من الشعوب، ورأوا إخوانهم يتساقطون أمامهم ومن بين أيديهم قتلى وجرحى؟! بل ما رأيك لو واجه الكفار -في أي موقع- مسلمين حقيقيين، يقاتلون عن عقيدة، وعن مبدأ، وإيمان، إنهم حينئذٍ سيكونون شيئاً آخر غير الذي ذكر لنا في التقارير؛ بل سيفرون فرار الجرذان من المعارك؛ وسوف يتركون وراءهم أكوام الأسلحة، والقوات، حيث لم تكن تنفعهم حصونهم من الله عز وجل، بل يأتيهم الله تعالى من حيث لم يحتسبوا كما وعد: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2] من حيث لم يظنوا ولم يتوقعوا، ربما يتوقع الكافر أن يؤتى من الجو أو من البحر أو من البر، ولكنه أوتي من حيث لم يحتسب من قلبه، فأوتي بفقدان شجاعته، وفقدان قوته، وفقدان المواجهة والقدرة والصبر، ولهذا كانت الهزيمة النفسية هي أقسى وأشد ألوان الهزيمة في المعارك، ولك أن تتصور مقارنة سريعة بين هؤلاء القوم الذين كانوا يمشون، وأمامهم، ومن بين أيديهم، ومن فوقهم أعداد هائلة غريبة من الأسلحة والطائرات والقوى المختلفة التي ربما تستخدم لأول مرة، ومع ذلك يواجهون مثل هذه أن (15%) يذهبون ضحية الحروب النفسية، أو ضحية الأمراض النفسية.

لك أن تواجه ذلك وتقارنه بأولئك الإخوة الذين قاتلوا في أفغانستان، وكيف كان هؤلاء يضربون أروع الأمثلة في الصبر والبسالة والفداء، وكان الواحد منهم يموت أخوه وهو يشاهد، فيسرع إلى الموت وهو يتعجب لماذا مات أخوه وبقي هو! ويقول: لا خير في الحياة بعد فلان وفلان، ولهذا على رغم أنهم لم يكونوا يملكون أسلحة تذكر ولا قوةًَ تذكر، ولا تنظيماً، ولا خبرةً؛ إلا أن هؤلاء الشباب الذين كانوا في مقتبل العمر، وربما ترك الواحد منهم زوجته، وربما كان قد خطب وعقد، ولم يدخل عليها بعد، وربما ترك أهلاً ينتظرونه، وقد أتوا من بلاد فيها ألوان التيسيرات المادية، وألوان الترف، ومع ذلك ذهبوا إلى هناك وجلسوا سنوات طويلة، وقاوموا العدو الكافر حتى خرج من أفغانستان، وقُتِل مِنهم مَن قُتِل نسأل الله تعالى أن يكونوا شهداء في سبيله، وجُرِح مِنهم مَن جُرِح.

ثم جاءوا، وأنت ترى اليوم في عيونهم شوقاً إلى أرض أخرى يقام فيها الجهاد، ترى في عيونهم، وتقرأ في وجوههم، وتسمع في كلماتهم، حسرات وزفرات على أنهم خاضوا المعارك وخرجوا منها ولم يقتلوا في سبيل الله عز وجل فهم ذهبوا يبحثون عن الموت، وعن القتل، وعن الشهادة في سبيل الله عز وجل.

فشعروا بأنهم حرموا شيئاً كثيراً، وهم يتربصون وينتظرون مواقع أخرى تدار فيها المعارك مع أعداء الله، حتى يذهبوا إلى هناك رجاء أن يحصلوا على ما لم يحصلوا عليه في أفغانستان، فأي فرق تجد بين هؤلاء وأولئك، والله ما رأينا أحداً منهم يعاني من مرض نفسي، ولا يعاني من أزمة، ولا يعاني إلا الشجاعة والقوة والبسالة، ويتمنى الواحد منهم أن يقتل في سبيل الله تعالى! مع أنهم شباب في مقتبل العمر، ولم يتلقوا تدريبات تذكر، وكانت بيئاتهم ربما غير ملائمة لإعدادهم بشكل صحيح.

ومع ذلك كله كانوا أقوى ما يكونون، وأشجع ما يكونون، وأصبر ما يكونون؛ لسبب واحد: أنهم كانوا يقاتلون عن عقيدة وعن مبدأٍ وعن دين، فأي فرق بين هؤلاء وبين أولئك الذي خضعوا لدراسات واختبارات، وألوان من الإعداد النفسي والمعنوي، مع أنهم يملكون قوة رهيبة، ومع ذلك انظر الفرق البعيد بين هؤلاء وهؤلاء.

بل إني أذكر لك أعجب من هذا: أحد الشباب منذ زمن كانت له أمٌ كبيرة السن، وكانت تسمع أخبار المجاهدين في أفغانستان فقالت: والله لا بد أن أذهب إلى هناك، وحاول ولدها أن يقنعها بعدم الذهاب، ولكن عبثاً أن يحاول إقناعها، وما زالت مصرة حتى ذهبت إلى هناك مع ولدها برفقته، وساعدت المجاهدين في بعض الأعمال المشروعة، ثم طاب خاطرها فعادت إلى بلادها.

إنه لا سواء بين من يبحث عن الموت، وبين من يهرب من الموت، وأي حيلة في إنسان يبحث عن الموت، أنت لو هددت إنساناً لهددته بالموت! فإذا كان هو يريد الموت لا معنى لهذا التهديد، وهذا لسان حالهم يقول: فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخبر المطارف لا أريد أن أموت على سرير يكون عليها ألوان المطارف، والحشايا والثكايا، ويقول: ولكن أحن يومي سعيداً بعصبة يصابون في فج من الأرض خائف عصائب من شيبان ألف بينهم تقى الله نزالون عن التزاحف إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف بماذا نهدده؟ بالموت؟! ماض وأعرف ما دربي وما هدفي والموت يرقص لي في كل منعطف وما أبالي به حتى أحاذره فخشية الموت عندي أبرد الطرف

طور بواسطة نورين ميديا © 2015