أيها الإخوة: لو نظرنا في الأجيال القدوة، الأجيال السابقة من المؤمنين، سواء قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، أم في الأجيال اللاحقة من المؤمنين؛ لوجدنا أنهم يتعاملون مع القضايا بطريقة أخرى مختلفة تماماً، ولعلي أضرب لكم بعض الأمثلة، فيما يتعلق بالأجيال من الأمم السابقة، يحكى لنا الله عز وجل عدة أخبار من أخبار هؤلاء الأقوام، فيها عبرة فمثلاً يقول الله عز وجل في سورة "يس": {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [يس:20-23] .
إنه رجل من أقصى المدينة يسعى يركض ركضاً، لماذا يأتي؟ لإنقاذ الموقف، لإعلان كلمة الحق {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينََ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20-21] ليس له غرض، ولم يكن سعيه خوفاً من فوات صفقة تجارية -مثلاً- ولا خوفاً على نفسه أو روحه، بل بالعكس كان يسعى إلى حتفه وهو يعلم ذلك، لأنه قتل بسبب جهره بكلمة الحق، وتعزيزه لموقف النبيين المرسلين، فقتل فقيل له: ادخل الجنة، فدخل الجنة: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26-27] .
إذاً: هذا رجل واحد، لكنه يركض؛ لأنه يشعر أنه مسئول، وكأنه يرى أن هذا الأمر لابد أن يبلِّغه قبل أن يموت، أو يهلك دونه، فجاء من أقصى المدينة يسعى.
كذلك الحال بالنسبة لقصة موسى عليه الصلاة والسلام، فإن الله عز وجل ذكر فيها: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] هذا الرجل الآن يريد أن يخبر موسى عليه الصلاة والسلام، وهو الداعية النبي الرسول، يريد أن يخبره بأن هناك مؤامرة ضدك يا موسى، فعجل بالخروج، وانظر لنفسك مهرباً مما يحاك ويدبر في الخفاء، فهذا الرجل ربما كان يتعرض لخطر كبير، حين كشف القضية وفضحها، وبيّن الأمر لموسى، وربما يمسك القوم به، ويقولون: ما دام نجا موسى بسببك فلابد أن نأخذك أنت عوضاً عنه، ولكنه تجاهل كل هذه المخاوف، وجاء يركض ركضاً إلى موسى ليبلغه بالخبر قبل أن يقع موسى في هذه المؤامرة، فقال له يا موسى: إن الملأ -من هم الملأ؟ العلية، علية القوم والكبراء والأمراء والزعماء- يأتمرون بك ليقتلوك، فاخرج إني لك من الناصحين، فيخرج موسى عليه الصلاة والسلام خائفاً يترقب -كما ذكر الله عز وجل-.
لم يقل هذا الرجل هذه قضية لا شأن لي بها، وهذه قضية تخص علية القوم، تخص الملأ والكبراء، لا، بل رأى أنه ما دام علم بالخبر، وعلم بالمؤامرة التي تحاك ضد نبيٍ من أنبياء الله، ووليٍ من أولياء الله؛ فلابد أن يبلغه، ويقوم بواجبه في هذا الأمر، ولو قال: لا شأن لي بالأمر، ولا علاقة لي بالموضوع، وأنا خارج الدائرة، ما كان بلغ موسى خبر هذه المؤامرة عليه.