مأساة التعصب المذهبي

وأضرب لذلك -مثلاً- يتعلق أيضاً بموضوع المذاهب الفقهية، وإنما اخترت موضوع المذاهب الفقهية، لأنه أوضح وأظهر، فإن من الممكن ونحن الآن أمام مذاهب مختلفة، أشهرها المذاهب الأربعة، ولكن هناك أكثر من عشرة مذاهب غالبها موجود، أو كلها موجودة في العالم الإسلامي، وهناك مذهب الأوزاعي، وهناك مذهب الظاهري، وهناك مذهب سفيان، وهناك -بطبيعة الحال- مذهب أهل الحديث، إلى غير ذلك من المذاهب الفقهية، هذه المذاهب من الممكن أن يعلن الإنسان الحرب عليها بصورة واضحة، وعلى دعاتها وعلى فقهائها، لماذا؟ لأن هناك تعصباً مذهبياً يعصف بالعالم الإسلامي.

أقول: يوجد على مستوى العامة، بل حتى على مستوى الفقهاء والمفتين في معظم بلاد العالم الإسلامي، تعصب مذهبي، ويوجد تمسك بالموروث، حتى لو كان مخالفاً لما تدل عليه ظاهر النصوص، من القرآن والحديث، ولكن بسبب الإلفة والعادة، والتلقي في الصغر، وكون هذا الأمر معروفاً في المجتمع، يصعب على الإنسان أن يغير رأيه، أو قناعته بهذا الحكم أو بهذه المسألة الفقهية، وربما صار هذا التعصب بلاءً، حتى إنه ليس من الأسرار أنه كان هناك معارك تاريخية، وهدمت بيوت، وقامت معارك، وقتل أشخاص، وسالت دماء، بسبب بعض ألوان التعصب المذهبي، الذي حصل بين بعض الطوائف في بغداد، وفي بلاد المشرق وفي غيرها، فقد يقول قائل: هذا بسبب هذه المذاهب، إذاً فلا بد من الحرب عليها، وتحريم الانتساب المجرد إليها، ودعوة الناس إلى رفضها ونبذها! وهذا على كلٍ هو رأي، ونستطيع أن نعبر عنه بأنه منهج، منهج يدعو إلى نبذ المذاهب كلها، حتى مجرد الانتساب إلى هذه المذاهب، والأخذ من الكتاب والسنة فحسب، ونحن -جميعاً- متفقون على أنه يجب الأخذ من الكتاب والسنة وإجماع الأمة فحسب.

ولكن هل ترفض هذه المذاهب، ويُدعى الناس إلى الأخذ من الكتاب والسنة؟ أم أنه يمكن أن يُربَّى الناس على الأخذ من الكتاب والسنة، ولو كانوا منتسبين؟ فمجرد الانتساب لا يضر، يعني كونك تقول مثلاً: أنا شافعي، أو حنبلي، أو أنا مالكي، أو أنا حنفي ليست العبرة بمجرد الاسم، فهذا مثل ما تقول: أنا من قبيلة كذا، أو أنا من بلد كذا، لكن العبرة إذا كنت شافعياً، ثم عرفت دليلاً مخالفاً لمذهب إمامك، أتتبع الدليل أم تتبع مذهب الإمام، فإن كنت تتبع الدليل، فهذا لا يضر أما إن كنت تتبع مذهب الإمام، وتترك الدليل فهذا يضرك، ولو تخليت عن الاسم، ولو خلعت النسبة، لكنك تركت الرجوع إلى الدليل الشرعي.

إذاً العبرة بالطواعية والانقياد للدليل الشرعي، وليست بمجرد الأسماء، مع أننا نقول: إن الأسماء -أيضاً- ليست ملزمة، ولا شريعة قائمة، ولا قال أحد من أهل العلم: إنه يجب على كل أحد أن يتسمى باسم معين، أو اسم خاص، اللهم إلا الأسماء الشرعية، الإيمان والإسلام، وما أشبه ذلك، أما هذه الأسماء وهذه النسب، فهي أمور ليست واجبة على أحد بحال من الأحوال.

وعلى كل حال قد يرى إنسان أن يعلن الحرب على هذه المناهج كما أشرت، وهذا منهج، ولكنه يستنفر عداوات الكثير، وعداوات ضخمة، وأحياناً يواجه مع الأسف حججاً علمية في كثير من البلاد، وتصبح المسألة بين شد وجذب، ويصبح معظم الناس لا يفقهون من الأمر شيئاً، ولكن هناك في المقابل منهج آخر، منهج لا يعلن الحرب على الاسم، لأن المشكلة ليست في الاسم بذاته، ولكن يعلن الحرب على الانحراف الموجود في المضمون، والموجود في الواقع، الذي هو تَرْكُ الدليل الشرعي إلى قول فلان، ورأي علان، فهذا المنهج لا يستهدف الإطاحة بالمذاهب كأسماء وعناوين ولافتات، ولا يحاربها لذاتها، ولكنه يحارب التعصب الممقوت، ويحارب التقليد، خاصة التقليد الأعمى غير المبصر، الذي ليس اتباعاً للدليل، ولكنه تقليد لفلان وفلان، بغير حجة شرعية.

ويدعو هذا المنهج إلى العناية بالدليل الشرعي، بكلام الله عز وجل، وكلام الرسول المصطفى عليه الصلاة والسلام، ويحارب أشد الحرب تلك الفئة التي تعرف الدليل الشرعي، ثم تعرض عنه، تعصباً لمذهب، أو إمام أو قول: عذيري من قوم يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالك فإن عدت قالوا: هكذا قال أشهب وقد كان لا تخفى عليه المسالك فإن عدت قالوا: قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله فهو آفك فإن قلت: قال الله ضجوا وعولوا وصاحوا وقالوا: أنت قِرنٌ مماحك وإن قلت: قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك مسالك المهم هؤلاء الذين يرفضون الدليل، أو يقولون: كل نص خالف المذهب فهو منسوخ، أو مؤول، وإنما نقرأ القرآن والسنة لمجرد التبرك، لا شك أن هذا إلغاء للنص الشرعي، وتعبيد للناس بما لم يُعبِّدْهم الله تعالى به، ومن نعم الله تعالى على الأمة في هذا الوقت، أنها أصبحت تبحث عن الدليل، وتبحث عن (قال الله) (قال رسول الله) وإذا تكلمت مع إنسان بقول، أو أفتيته بفتوى قال لك: أين الدليل؟ أو ما هي الحجة؟ أو ما أشبه ذلك، وهذه لا شك من ظواهر الصحوة الإيجابية، التي يجب العمل على تعميقها، وتنميتها، وتوسيعها بقدر المستطاع.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015