ضرورة الالتفاف حول العلماء

الواجب الثالث هو: ضرورة الالتفاف حول العلماء، وكثرة مخالطتهم ومجالستهم، والقرب والدنو منهم، وذلك ليأخذ عنهم الإنسان العلم، وليس العلم فقط، العلم! ليس مجرد علوم نظرية يتلقاها الإنسان، العلم هو في الواقع سلوك، فأنت كما تتعلم الحكم الشرعي بالدليل، كذلك يجب أن تتعلم الخلق الفاضل، والهدي المستقيم، والسلوك والأدب والتعقل والتريث والصبر من العالم.

وقولوا لي بالله عليكم! أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هل كانوا فقط يتعلمون منه عن طريق الدروس؟ هل كان يعقد لهم محاضرات وخطب، فيجلس يتكلم وهم يسمعون؟ لا وإن كان هذا يقع؛ لكن كانوا في معايشة الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامته وسفره وضعنه وحله وترحاله وغزوه وحربه وسلمه وبيته ومسجده وسوقه، يعايشونه عليه الصلاة والسلام ويتابعونه ويتعلمون من خلقه مثلما يتعلمون من قوله عليه الصلاة والسلام.

فمسألة تعلم الإنسان من الشيخ حسن الخلق والصبر والحلم والرزانة والأدب والهدي والسمت، لا تقل أهمية عن تعلم العلم المجرد من الأحكام والأصول والفروع والأدلة والآيات والأحاديث ونحوها، فلا بد من صحبتهم لهذه الأشياء كلها، هذه الصحبة كانت سمتاً يميز علماء السلف، وأضرب لكم أمثلة يسيرة في ذلك: 1- من أشهر الأمثلة في ذلك قصة عبد الله بن المبارك، لما زار الرقة كان يسمى أمير المؤمنين في الحديث -وعبد الله بن المبارك من الشخصيات التي تجمع فيها ما تفرق في غيرها، ارجع إلى سيرته واقرأ ماذا يعجبك في عبد الله بن المبارك، إن قلت العلم فالعلم، إن قلت الحديث فالحديث، إن قلت الكرم والجود والسخاء فذاك، إن قلت الجهاد والغزو والشجاعة، إن قلت العبادة سبحان الله! إنه شخصية جامعة، المهم عبد الله بن المبارك من أئمة السلف وعلمائهم وجهابذتهم- زار الرقة بلد بالمشرق، وصادف في زيارته أن هارون الرشيد أمير المؤمنين في الواقع، ذاك أمير المؤمنين في الحديث وذاك أمير المؤمنين في السياسة والحكم، زار الرقة أيضاً، فانجفل الناس إلى عبد الله بن المبارك وامتلأت الشوارع، وارتفع الغبار، وتقطعت النعال، كان مع هارون الرشيد أم ولد، يعني أمة وطئها هارون الرشيد فولدت له، فتعجبت! موكب هارون الرشيد في هذا الاتجاه والناس ذاهبون في اتجاه آخر، فتلفتت وقالت: ما شأن الناس؟! إلى أين يذهبون؟! مسكينة ظنت أنهم ضلوا الطريق! فقال لها بعض من حولها: إن عبد الله بن المبارك أمير المؤمنين في الحديث قد قدم الرقة، فالناس قد انجفلوا إليه، فحركت رأسها وقالت: هذا والله هو الملك لا ملك هارون الرشيد الذي يقاد إليه الناس بالسياط والشرط والقوة.

فضمير الأمة الإسلامية كان وراء العلماء وحول العلماء، وإذا قدم العالم كانت البلدة تخرج لاستقباله، وإذا تحدث أنصت الناس له.

2- كم كان يحضر مجلس الإمام أحمد في بغداد بعدما فتن وصبر؟ قدر بعض العلماء كـ ابن الجوزي وغيره من يحضرون مجلسه بخمسة آلاف نسمة.

3- انظر على سبيل المثال شيخ الإسلام ابن تيمية كيف كان ابن تيمية؟، لأنه كان فعلاً مع الأمة في الواقع، كانت قلوب الناس معه كما ذكر ابن القيم والذهبي وغيرهما، العامة كلهم كانوا مع ابن تيمية رحمه الله، ولذلك كان السلطان يخاف من ابن تيمية ويخشى منه، فلا يمسه ولا يؤذيه، حتى أن ابن تيمية كان يخرج في الأسواق، ويغير المنكرات، ويكسر أواني الخمر ويهريقها، وخرج إلى جبل كسروان فقطع أشجارهم وفرقهم وأنكر عليهم، وما كان أحد يستطيع أن يتعرض له، بل كان ابن تيمية يقف أمام السلطان المملوكي في مصر، ويقول لهم: إن كنتم تخليتم عن الشام فإننا نقيم للشام حاكماً يحوطه ويحميه في زمن الخوف ويستغله في زمن الأمن، قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] ومع ذلك ما كان السلطان يستطيع أن يتصدى لـ ابن تيمية بشيء، لأن ضمير الأمة وقلوب الناس كانت مع ابن تيمية.

ولذلك فإن التفاف الناس حول علمائهم الصادقين العاملين، علماء أهل السنة والجماعة رمز يميز هذه الأمة، وهو ضمانة من وجهين: ضمانة للعامة حتى تكون قياداتها قيادات علمية وشرعية وعقائدية موثوقة، وبالمقابل ضمانة للعلماء حتى يتمكنوا من القيام بدورهم الدعوي والعلمي والواقعي وهم آمنون، وسيأتي مزيد من إلقاء الضوء على هذه النقطة بالذات.

4- العز بن عبد السلام يذكر بعض مترجميه أن العز بن عبد السلام لما خرج إلى مصر - العز بن عبد السلام بطبيعته في الحال كان في الشام فلما جاء الصليبيون ومالأهم حاكم الشام قطع العز بن عبد السلام الدعاء له على الخطبة، وتكلم عليه، فأمره السلطان بالخروج فخرج، ثم سجنه في خيمة في أحد الأماكن، وكان السلطان في نفس الوقت في خيمة مجاورة، يتفاوض مع بعض رسل الصليبيين، فسمع هذا الصليبي العز بن عبد السلام وهو يقرأ القرآن ويهلل ويسبح، فقال: من هذا؟ قال الحاكم: هذا رجل من علمائنا، عارضنا فيما نعمله معكم من المفاوضة فسجناه، فقال الرجل: والله لو كان هذا الحبر عندنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها! عالم يتخذ هذا الموقف، هذا يبجل ويعظم، المهم خرج العز بن عبد السلام إلى مصر ومكث فيها وقتاً طويلاً، كان يحكمها المماليك، وهم عبيد مملوكون أرقاء، فقال العز بن عبد السلام: لا بد أن تباعوا ويحرج عليكم بالمزاد العلني، ثم بعد ذلك إن شئتم أن تعودوا للسلطة فعودوا، أما أن تحكموا الناس وأنتم عبيد، فهذا لا يمكن، المهم قالوا له: أخرج من البلد، فخرج في موكب متواضع، راكب على حمار ومعه زوجته، وقد وضع أثاثه على هذا الحمار، وخرج هذا الموكب البسيط، فخرجت معه مصر كلها، فجاء الناس إلى السلطان، وقالوا: خرج العز بن عبد السلام فخرجت مصر وراءه! فمن تحكم إذاً إذا خرج الناس، فأمره بالعودة واسترضاه وحقق له ما يريد!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015